اليوم نغلق سويًا ملف أزمة السولار، وهي الأزمة التي استمرت طويلًا حتى ظن البعض أن حلها يكاد يكون مستحيلًا، لكن الأيام أثبتت أن الأزمة في طريقها للحل، وهو الأمر الذي شعر به الجميع في الأيام القليلة الماضية، ويبقى السؤال المهم الآن: كيف يمكن أن نخرج من مجرد معالجة الأزمات الطارئة، إلى مرحلة جديدة من التطوير لقطاع البترول بأكمله، ورسم الخطط المستقبلية للقضاء على الأزمات من جذورها؟. الحل الحقيقي لأزمة الوقود في مصر يبدأ بوقفة حقيقية لمراجعة منظومة الدعم الذي تقدمه الدولة، ونعرف جميعًا أنه يذهب لغير مستحقيه، الأرقام تتحدث عن نفسها.. فقيمة الدعم السنوي للسولار تبلغ حوالي 55 مليار جنيه، بما يقارب 51% من قيمة دعم المواد البترولية، والقدر الأكبر منه يستخدم في سيارات النقل والأجرة والمصانع والمخابز وقمائن الطوب، ويحتل قطاع النقل المركز الأول بنسبة 30% من جملة استهلاك السولار، يليه في ذلك قطاع السياحة بنسبة 22% ثم قطاع الكهرباء بنسبة 16%، ولأن الشيطان دائمًا يكمن في التفاصيل.. فسوف نعرف أنه ما زالت هناك 45 محطة كهرباء تعمل بالسولار والمازوت، وتكلف الدولة سنويَا حوالي 8 مليارات جنيه، في حين يمكن تخفيض التكلفة إلى 3 مليارات جنيه لو تم تشغيلها بالغاز، والأسوأ من ذلك أن السولار والمازوت يفسد الماكينات بمحطات الكهرباء، لأنها غير مصممة لاستهلاكه، أما المعلومة الثانية الأخطر فهي أن سيارات النقل العام ما زالت تعمل بالسولار، وذلك على الرغم ما أن تحويلها إلى الغاز يوفر أكثر من نصف التكلفة، بالإضافة إلى أن جميع الأوتوبيسات السياحية في مصر تعمل بالسولار أيضًا، ويمكن ببساطة وقف استيراد تلك التي تعمل بالسولار، والسماح فقط للتي تعمل بالغاز، أما الاستهلاك الأهم والذي يؤثر بشكل مباشر على حياة المواطن فهو الميكروباصات التي تستخدم كلها السولار، ولو افترضنا أن الميكروباص الواحد يستهلك 20 لترًا يوميًا؛ ومع تكلفة دعم للتر تبلغ 3 جنيهات، فيكون الدعم للميكروباص 60 جنيهًا يوميًا، بإجمالي 22 ألف جنيه في السنة الواحدة، وهنا يمكن للحكومة أن تتخذ قرارًا جريئًا بتوفير الدعم اللازم لتحويل موتور كل الميكروباصات من سولار إلى غاز، وهو المبلغ الذي سيكون أقل بكثير من 22 ألف جنيه، ولكنه يضمن التخلص من الصداع المزمن الموجه لدعم السولار. الجزء الثاني من حل الأزمة يتمثل في إحكام منظومة الرقابة على المواد البترولية بشكل فعال، وقد سعدت كثيرًا بالمحادثة الهاتفية مع المهندس (حسام قاسم) مسئول متابعة ملف الوقود برئاسة الجمهورية، والذي أكد لي أنه خلال أسابيع ستبدأ المرحلة الأولى من استخدام التكنولوجيا في متابعة منسوب الوقود بكل محطات مصر إلكترونيًا، والتأكد من عدم تهريبه بأي صورة، لتبدأ بعدها المرحلة الثانية المتمثلة في متابعة خط سير كل سيارات توزيع الوقود في مصر من خلال نظام ال(جي بي إس) والتأكد من وصول الوقود للمحطات، وأخيرًا تأتي المرحلة الثالثة والتي ستتمثل في استخدام البطاقات الذكية لمالكي السيارات، بما يضمن وصول البنزين والسولار المدعم إلى من يستحقه، وهي خطوات هامة وجيدة تحتاج إلى الكثير من الدقة في المتابعة والتنفيذ. أما الحل الاستراتيجي للأزمة فيتمثل في البحث عن بدائل للسولار، يجب النظر بجدية الآن لمشروع إنتاج "الوقود الحيوي" والذي يمكن استخراجه من بعض النباتات الصحراوية، بل وحتى من مخلفات الزيوت في الفنادق والمطاعم، وللدكتور "نادر نور الدين"، الأستاذ بجامعة القاهرة دراسات، هامة حول هذا الموضوع، أكد من خلالها أن الصحراء الغربية -التي تشغل ثلثي مساحة البلاد- يمكن أن تكون مستودع الطاقة لمصر، وكافة الدول العربية، سواء من خلال الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية، أو الوقود الحيوي الذي يمكن استخلاصه بالاستفادة من مليون ونصف فدان من الأراضي الملحية التي تصلح لزراعة أشجار (الجاتروفا)، وهي نباتات لها القدرة على تحمل الظروف المعاكسة من نقص المياه والتربة الملحية، بالإضافة إلى بذور اللفت، وبواقي محاصيل الزيتون غير القابلة للتسويق، بل وبواقي ثمار البلح الجاف المنتج في الواحات، والجميل أن هذه النباتات تعطي محصولًا مجزيًا يكفي لتشغيل عشرين مصنعًا لإنتاج الديزل الحيوي، وقد بدأت مصر مؤخرًا عصر إنتاج الوقود الحيوي، بمنح الرخصة لمصنع الديزل الحيوي بمحافظة المنوفية في شهر يناير الماضي، وهو أول مصنع من نوعه في منطقة الشرق الأوسط والرابع في العالم، من خلال تكنولوجيا جديدة تقوم على تحويل خليط من المخلفات المنزلية والزراعية إلى وقود ديزل حيوي، وهو ما يسمح بإنتاج 1000 لتر من الديزل في الساعة، بطاقة إنتاجية تصل إلى 8 ملايين لتر في السنة، وهناك العديد من الطلبات الخارجية تهدف إلى الاستثمار في مجال الوقود الحيوي، وهو مجال واعد ومثمر يجب التركيز عليه في المرحلة القادمة. ما من شك في أننا قد أصبحنا الآن نملك الإرادة السياسية اللازمة للتغلب على كل العوائق، والبحث عن مجالات جديدة للتنمية والبناء، ولكن أهم ما نحتاجه الآن هو رسم خريطة طريق واضحة لموقع مصر واتجاهاتها الاستراتيجية للسنوات القادمة في مختلف المجالات، حان الوقت أن تصبح أولوية كل التيارات السياسية هي صياغة المشاريع والتوجهات للمرحلة القادمة، أرجوكم.. دعونا نطرح الماضي خلفنا، لنبدأ مرحلة التفكير في المستقبل وبناء مصر الجديدة، التي تحتاج إلى سواعد كل أبنائها. [email protected]