شيء عجيب أن تحدث أزمة سولار وبنزين في مصر نتيجة نقص إمداد المنتجات النفطية، فتجد إنتاج البترول في مصر أقل من كل جاراتها، أليس في ذلك ما يثير الريبة؟ ما يمكن أن يزيدك ريبة أن مصر كانت من أولى دول الشرق الأوسط، بل العالم في كشفه !! هذه التساؤلات المشروعة وصلتني من صديقي العزيز الأستاذ "محمد نصر"، والذي دائمًا ما يتناول بقلمه مشكلات وهموم الوطن، ولكن شكوكه هذه المرة كان لها ما يبررها، فلنا في تجربة السودان خير مثال، حينما تأخر اكتشاف البترول فيها على أيدي الشركات الأمريكية، ثم تغير الوضع بالكامل عندما تولت الصين قبل سنوات معدودة أمر استكشاف حقول البترول، فأصبحت السودان دولة مصدرة للنفط، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول تعمد إخفاء الاكتشافات البترولية، أو تأجيلها لأغراض سياسية. وفي الحالة المصرية لا بد أن نتذكر أن المنطقة بأكملها كانت تقع تاريخيًا في نطاق واحد، ويعتبر الخبراء أن نطاق الصحارى الحالي في العالم العربي كان يعيش في الماضي السحيق في ظل عصر مطير، و كان وجه الإقليم تغطيه الحشائش والحيوانات، وهذه الحفريات هي التي كونت البترول فيما بعد، إذن فمن المنطقي أن تكون المنطقة ذات خصائص بترولية متقاربة. الدرس الأول المستفاد من أزمة نقص السولار الحالية هو المعلومة المتعلقة باستيرادنا لقرابة 30% من احتياجاتنا من السولار، صحيح أن أزمات نقص السولار والبنزين ليس لها علاقة بالثورة، فهي مستمرة منذ سنوات طويلة، كان آخرها في نفس هذا التوقيت بالضبط من العام الماضي، وهو ما تسبب حينها في تجدد الطوابير والاشتباكات بمحطات الوقود، لكن وجود هذا العجز بين الإنتاج والاستهلاك المحلي يجعل مصر مضطرة دائمًا إلى البحث عن سيولة نقدية لسد العجز، ثم تقديم الدعم للمنتجات، وتكتمل أبعاد المشكلة عندما نتابع الارتفاع المستمر لسعر البترول عالميًا. قد تمثل الأزمة الحالية فرصة جيدة لتغيير الكثير من الأوضاع الخاطئة في إستراتيجية التعامل الحكومي مع الإنتاج النفطي لمرحلة ما بعد الثورة، فمن رحم تلك الأزمة ظهرت بادرة جيدة تمثلت في قرار وزير البترول بالبدء في تنفيذ خطة خمسية للاكتفاء الذاتي من السولار، حيث ستقوم الشركة المصرية للتكرير بإقامة مشروع ضخم لإنتاج السولار، يزيد رأس ماله عن 6.3 مليار دولار، ويستغرق إنشاؤه قرابة الأربع سنوات، كذلك يجب النظر إلى أماكن جديدة وهامة لإنتاج البترول، فقد شهد العام الماضي الإعلان عن اكتشاف حقل "البركة" النفطي في منطقة "كوم امبو" في الصعيد، ويتوقع الخبراء أن يصبح واحدًا من أهم الحقول المنتجة للبترول في مصر، وهو ما يمثل مقدمة للاهتمام بالتنقيب في منطق جديدة مثل الصعيد. تأتي على رأس المشكلات التي تحتاج إلى دراسة متعمقة، قضية العلاقة مع شركات التنقيب عن النفط، فبعد حرب عام 1973 كان الاقتصاد المصري في مرحلة ركود تام، لم تكن هناك وسيلة لجذب استثمارات الشركات في مجال البترول، ولذلك فقد قبلت مصر من ذلك الحين توقيع عقود مجحفة مع تلك الشركات، حيث يقوم الشريك الأجنبي بالحصول على حق الاستغلال والتنقيب في منطقة محددة، وعند العثور على النفط فإنه يسترد مصروفاته كاملة، وعقب ذلك تدفع الحكومة ممثلة في الهيئة العامة للبترول، للشريك الأجنبي أرباحه، ثم تدفع الهيئة الضرائب عن أرباحها وأرباح الشريك الأجنبي، والباقي يقسم بين الشريك والدولة، هذا النظام من الاتفاقيات تم تغييره في معظم دول العالم، ففي دول بحر الشمال مثلاً نجد أن الاتفاقيات لا تعطي الحق للشركات الأجنبية في استرداد تكاليف التنقيب عن النفط، حتى في حالة اكتشافه بكميات تجارية، بالإضافة إلى ذلك فقد حان الوقت الآن لفتح المجال لدول جديدة مثل الصين وماليزيا لتدخل مجال الاكتشافات البترولية في مصر، وهو ما سيفتح مجال المنافسة، ويحقق أكبر قدر من الفائدة للبلد. أما الحل الاستراتيجي للأزمة فيتمثل في البحث عن بدائل للسولار، يجب النظر بجدية الآن لمشروع إنتاج "الوقود الحيوي" والذي يمكن استخراجه من بعض النباتات الصحراوية، بل وحتى من مخلفات الزيوت في الفنادق والمطاعم، وللدكتور "نادر نور الدين" الأستاذ بجامعة القاهرة دراسات هامة حول هذا الموضوع، أكد من خلالها أن الصحراء الغربية -التي تشغل ثلثي مساحة البلاد- يمكن أن تكون مستودع الطاقة لمصر، وكافة الدول العربية، سواء من خلال الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية، أو الوقود الحيوي الذي يمكن استخلاصه من خلال الاستفادة من مليون ونصف فدان من الأراضي الملحية التي تصلح لزراعة أشجار "الجاتروفا"، وهي نباتات لها القدرة على تحمل الظروف المعاكسة من نقص المياه والتربة الملحية، بالإضافة إلى بذور اللفت، وبواقي محاصيل الزيتون غير القابلة للتسويق، بل وبواقي ثمار البلح الجاف المنتج في الواحات، والجميل أن هذه النباتات تعطي محصولاً مجزيًا يكفي لتشغيل عشرين مصنعًا لإنتاج الديزل الحيوي، وهو ما يدعم الاقتصاد المصري من موارد مهملة وهامشية، ومنذ ثلاثة أعوام دخلت مصر عصر إنتاج الوقود الحيوي، بالبدء في إنشاء مصنع السويس للديزل الحيوي، وتم تخصيص نحو ألف فدان كمرحلة أولي لتزويد المصنع باحتياجاته من الحاصلات الزيتية، وهناك العديد من الطلبات الخارجية تهدف إلى الاستثمار في مجال الوقود الحيوي، وهو مجال واعد ومثمر يجب التركيز عليه في المرحلة القادمة. لقد حان الوقت لتتمكن مصر من اتخاذ قرارها بنفسها، أصبحنا الآن نملك الإرادة السياسية اللازمة للتغلب على كل العوائق السابقة، والبحث عن مجالات جديدة للتنمية والبناء، نحتاج الآن إلى رسم خريطة طريق واضحة لموقع مصر واتجاهاتها الإستراتيجية للسنوات القادمة في مختلف المجالات، حان الوقت أن نستمع لرؤية كل سياسي وكل متخصص حول هذه القضايا، يجب أن تكون أولوية كل التيارات السياسية الآن هي صياغة مشاريع وتوجهات المرحلة القادمة، أرجوكم.. دعونا نطرح الماضي خلفنا، لنبدأ مرحلة التفكير في المستقبل وبناء مصر الجديدة، التي تحتاج إلى سواعد كل أبنائها. [email protected]