برغم هدوء الأوضاع نسبيًّا في الشارع الإيراني مع إعلان السيِّد مهدي كرُّوبي في الخامس والعشرين من يناير اعترافَه بمحمود نجاد رئيسًا، إلا أن التنبؤ بمستقبل عودة التوتر وثورة الشارع لا يزال قائمًا، وبالذات بعد البدء في تنفيذ أحكام الإعدام ضد بعض المتظاهرين الخميس الماضي. فمن خلال سلسلة الأحداث الكبرى التي وقعت في إيران منذ انتخابات الرئاسة حتى أحداث عاشوراء السياسية, ومع حشد من الشهادات المنقولة من وسائط الإعلام الحديثة ورأي المراقبين، فإنَّ الانكسار الآن في تاريخ الثورة الإيرانية ومستقبل النظام أضْحَى متجهًا إلى مرحلة خطيرة تطرح السؤال الكبير: هل تُواجِهُ إيران فراغًا تَمْلؤه صراعات عنيفة هذا الأقل سُوءًا، أم أنها تواجه بالفعل قيام دولة على أنقاض النظام الحالي؟ ومع أن هذا الأمر كان مستبعدًا في تقديرات المراقبين إلَّا أنه بدء يُطرح مع موجة تطورات كُبْرى في علاقة الشارع العام والتيارات الفكرية مع مؤسسات النظام, وهنا يبرز تساؤل عن نوعية هذا التطور في هياكل النظام السياسي مع استعراض التجارب التاريخية التي كان منها نماذج سُحل فيها الهيكل القديم، كالنموذج الأوروبي وتاريخ تطوره الديمقراطي, فكيف سينضبط إيقاع هذا التحول وإلى أين ستتجه بوصلته من خلال بحر مُتلاطِم من إشكاليات إيران داخل قومياتها وداخل تفاعلاتها الثقافية ومن وراء الحدود, وعليه ففي كلّ الأحوال فإنّ مراجعة المشهد الداخلي ومعرفة قوى الحِراك الثوري المطالبة بالحريات وخاصة في ظل ملابسات رحيل منتظري، وتطور حضور اليسار الإيراني بشِقَّيه اليسار الديني والاشتراكي تُعطي أفق مهم لِمَا يجري على ساحة الصراع في إيران. فمن المؤشرات المهمة لتطوُّر الأحداث تصاعد ذلك المدُّ الاحتجاجي ودَمْجُه في مراسم عاشوراء في الجمهورية الإيرانية التي تَعتبر التمثيل الديني في مثل هذه المناسبة ينطلق من مرجعية النظام السياسي الديني في حين اختطَّ الثوَّار الخضر المدنيُّون الذين قُتل وجرح منهم العشرات في هذا الموسم اختَطُّوا منهجًا مُحرجًا ومفاجئًا للمحافظين؛ حيث انضمُّوا إلى المشهد الحسيني مكرِّسين في خطابهم لمفهوم مقاومة الاستبداد التي تعتبر قضية مركزية لكفاح الإمام الحسين، وحُولت لدى الإصلاحيين إلى المستبد القائم في إيران في شخص الرئيس نجاد والمرجعية الدينية الداعمة له, تُقدمها مواسم الاحتجاج الأخضر على أنها ممثلة للاستبداد الديني الذي يخلق الاستبداد السياسي ويصطفّ مع أعداء الحسين, هذا الاصطفاف الثوري بهذه اللغة لم يكن واردًا في إيران وغير متصورٍ قبل عام واحد من الأحداث ومن هنا نعرف حجم التغيُّر النوعي في الشارع الإيراني وحركة الاحتجاجات المشتعلة فيه. في نفس الوقت دخلت مرجعية الراحل آية الله منتظري مباشرة إلى صفوف حركة الاحتجاج من خلال علاقة اليسار الثائر بدفء أفكار وحيوية وثورية نظريات الراحل منتظري في مقابل الجهة التي أقْصَته في واقع يبرز وبقراءة مبسطة وتحليلية لوضع الشارع الإيراني واندفاعه لكل برنامج عنيد يواجه برامج الاحتواء التي حاول السيد الخامنئي دعمَ حكومة نجاد بها، ولكنّها لا تزال عاجزة عن إيقاف هذا البعث التاريخي في حركة المجتمع المدني الإيراني. إن وضعية التمرُّد الثقافي والاحتجاجي في إيران تُحدد لنا علاقةَ هذه المبادئ التي أعلنها منتظري بدينامكية الشارع وجموح ثقافته الجديدة، وهي تتركز في تطور حركة اليسار الديني المتصلة بالأستاذ الراحل علي شريعتي (مفكر الثورة الإسلامية في إيران)، التي تعتمد الرؤيةَ المدنية لتفسير الانتماء الديني وترفض بشدة هيمنة القداسة الغيبية للأفراد القائمين على السلطة وعصمتهم من المسائلة, وهي قناعة أضحت قويةً في الشارع ومتعانقةً وبتوافق، وإن كانت ليست كُلِيَّة مع مواقف منتظري, ورحيله أضحى يصل هذه الجموع بدعواته المتكررة لرجال الدين بحرمة صمتهم عن تجاوزات النظام, وموته يُجدد الاستقطاب في حركة علماء الدين المتمردين على ثقافة ولي الفقيه وتطبيقاتها الاستبدادية أو المُلغية لنظرات العقل والاستنباط التجديدي بحسب الفكر اليساري الديني الجديد, فإذا ما أضفنا لذلك توسّع حركة الشارع اليساري وقوته في صفوف الطلاب والشباب بل وتزايد المنتقلين من تيار الإصلاح الديني للسيد مير موسوي إلى مطلق المعارضة التي تنادي بتغيير يتجاوز مؤسسات الثورة وتاريخها السياسي فسندرك حينها معنَى تفاعل قِيَم منتظري ورحيلَه في هذه المرحلة الحساسة من التاريخ الإيراني المعاصر, كُلّ ذلك يُعزِّز لدى المراقب أنّ الهدوء الحَذِر في الشارع الإيراني لا يمكن أن يُتنبأ بأنَّه نهاية فورة بقدر ما تُعطيه كل الإشارات على أنه استراحة بركان لا يُدرى متى سينفجر وكيف..؟ المصدر: الإسلام اليوم