قال الله تعالى : { هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }[آل عمران/7]. والتشابه في اللغة يعني التماثل وفي الاصطلاح يعني أن تتشابه الألفاظ في ظاهرها وتختلف في حقيقة معانيها . وقد قال العلماء إن وضع المحكم في مقابلة المتشابه في الآية السابقة يدل على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه . واختلفوا بعد ذلك في تحديد دلالة كل من النوعين اختلافات كثيرة خلاصتها أن المتشابه هو ما كانت دلالته غير راجحة أو ما يحتمل أوجها عديدة من التأويل. وقد اجتهد العلماء في دراسة المتشابه وتأويله اجتهادات مشكورة ابتداء من الإمام قطرب النحوي ( ت 205 ه ) في كتابه " مشكل القرآن " الذي تناول فيه ما أثاره الملحدون من أسئلة حول آيات القرآن الكريم التي تبدو لهم متعارضة . فدحض أفكارهم بحجج قوية دامغة . ثم جاء ابن قتيبة ( ت 276 ه ) فوضع كتابه الفذ ( تأويل مشكل القرآن ) فرد على خصوم القرآن وأفاض في ذكر العديد من المسائل اللغوية والنحوية والبلاغية التي تؤيد دفاعه عن كتاب الله . وتوالت بعد ذلك المؤلفات في هذا الباب نذكر منها : 1 - متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار . 2 - " البرهان في توجيه متشابه القرآن " لمحمود بن حمزة الكرماني الملقب بتاج القراء (ت505 ه ) . 3 - " الأنموذج الجليل في أسئلة وأجوبة من غرائب أي التنزيل " لمحمد بن أبي بكر الرازي صاحب مختار الصحاح ( ت 666 ه ) . 4 - " جامع البيان في متشابه القرآن " للدكتور أبو سريع محمد أبو سريع الأستاذ بجامعة الأزهر في مجلد كبير وأكمله شقيقه الأستاذ الدكتور زكي محمد أبو سريع بمجلد ثان يحمل العنوان نفسه . وقد حفلت تلك المؤلفات بردود علمية ومناقشات عقدية ولغوية وبلاغية لما يتوهمه أعداء القرآن الكريم من تناقض بين الآيات المتشابهة . وقد وضع الإمام ابن تيمية كتيباً خاصا لمناقشة هذه القضية أسماه " الإكليل في المتشابه والتأويل " ركز فيه على مناقشة قضية تأويل المتشابه من الآيات . فقال (1) : " وقوله ( وما يعلم تأويله ) إما أن يكون الضمير عائداًعلى الكتاب أو على المتشابه ، فإن كان عائداً على الكتاب كقوله منه ومنه فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهذا يصح ، فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله . وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصّلْنَاهُ عَلَىَ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[الأعراف/52]. فجعل التأويل الجائي للكتاب المفصل . وإذا كان التأويل للكتاب كله والمراد به ذلك ارتفعت الشبهة وصار هذا بمنزلة قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنّكَ حَفِيّ عَنْهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[الأعراف/187]. وكذلك قوله { يَسْأَلُكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً }[الأحزاب/63]. فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله ، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها ، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به . فعلم تأويله كعلم الساعة ، والساعة من تأويله . وهذا واضح بين . ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه ، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها فهذا هذا . وإن كان الضمير عائداً إلى ما تشابه ، كما يقوله كثير من الناس فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه بخلاف الأمر والنهي ، ولهذا في الآثار العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه ، لأن المقصود في الخبر الإيمان ، وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه بخلاف الأمر والنهي فانه متميز غير مشتبه بغيره . وسنذكر فيما يلي نماذج من تأويل العلماء لبعض المتشابهات : يقول الإمام الرازي في الأنموذج الجليل (2) في تفسير المتشابه في سورة الأحزاب : فإن قيل : كيف قال تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ . . . }[التحريم/1]. ولم يقل : يا محمد كما قال تعالى : يا موسى ، يا عيسى ، يا داود ونحوه ؟ قلنا : إنما عدل عن ندائه باسمه إلى ندائه بالنبي والرسول إجلالا له وتعظيما كما قال تعالى : { يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ } (المائدة/67) { يا أيها الرسول بَلِّغْ } [المائدة/67]. فإن قيل : لو كان ذلك كما ذكرتم لعدل عن اسمه إلى نعته في الإخبار عنه كما عدل في النداء في قوله تعالى : { مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ . . . }[الفتح/29]. وقوله تعالى { وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ }[آل عمران/144]. قلنا : إنما عدل عن نعته في هذين الموضعين لتعليم الناس أنه رسول الله وتلقينهم أن يسموه بذلك ويدعوه به ، ولذلك ذكره " بنعته " لا " باسمه " في غير هذين الموضعين من مواضع الإخبار، كما ذكره في النداء { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة/128]. وقال في تفسير المتشابه من سورة الحشر :(3) فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (لغد) وأراد به يوم القيامة ، والغد عبارة عن يوم بينه وبيننا ليلة واحدة . قلنا : الغد له مفهومان : أحدهما ما ذكرتم . والثاني : مطلق الزمان المستقبل ، ومنه قول الشاعر : وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمِ وأراد به مطلق الزمان المستقبل كما أراد بالأمس مطلق الزمان الماضي ، فصار لكل واحد منهما مفهومان ، ويؤيده أيضا قوله تعالى : { كأن لم تَغْنَ بالامس }(يونس / 24) ، وقيل إنما أطلق على يوم القيامة اسم الغد تقريباً له كقوله تعالى : { اقتربت الساعة } (القمر/1) وقوله تعالى {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب }النحل/77) وكأنه تعالى قال : إن يوم القيامة لِقُرْبِه يشبه ما ليس بينكم وبينه إلا ليلة واحدة ، ولهذا رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة قالوا أراد بتلك الليلة ليلة الموت . =========================== قال الله - تعالى – { إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِر الله وجلت قلوبهم } (الأنفال/2) . وقال - جل وعلا – { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد/28) . كيف التوفيق بين الآيتين ، والتعارض بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهر؟ والجواب : أنه لا تنافي بين الآيتين ، ولا تعارض بين الطمأنينة ووجل القلوب ، فقد وردتا في حالتين كلتاهما من صفات المؤمنين الكاملين ، فالطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة حقيقة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والتقلب عن الهدى ، فمعنى { وجلت قلوبهم} خافت قلوبهم من هيبة الله ، واضطربت نفوسهم من عظمته ، وذلك إذا ما تذكروا عظيم عقوبته ، وجليل عدله ، وشدة وعيده على ترك أوامره واجتناب نواهيه ، وعلمه بما دق وعظم واقتداره عليه . ومعنى { تطمئن قلوبهم بذكر الله } أنهم إذا ما نظروا في نعم الله عليهم ، وذكروا مننه لديهم ، وإحسانه إليهم ، وسعة فضله ، وعظيم مغفرته ، وبالغ رحمته ، وكثرة ثوابه على الطاعات : اطمأنت قلوبهم ، وانشرحت صدورهم ، وحسن بالله ظنهم ، وسكنت نفوسهم إلى عفو الله - تعالى - بسبب ما أوتوا من قول المعرفة وعظيم التوحيد ================================= وقال - جل وعلا – { قُل لّمَن مّا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُل للّهِ كَتَبَ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }[الأنعام/12]. وقال تعالى{ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }[الأنعام/20]. وليس هذا بتكرار ؛ لأن الأول في حق الكفار ، والثاني في حق أهل الكتاب . ================ وقال - جل وعلا – { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ }[الأنعام/21].وقال في يونس { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ }[يونس/17]. وختم الآية بقوله { إنه لا يفلح المجرمون } ؛ لأن الآيات التي تقدمت في هذه السورة عطف بعضها على بعض بالواو ، وهو قوله :{ قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ هََذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَىَ قُل لاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلََهٌ وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام/19]. وختم الآية بقوله { الظالمون } ؛ ليكون آخر الآية لفقاً لأول الأولى . وأما في سورة يونس ، فالآيات التي تقدمت عطف بعضها على بعض بالفاء ، وهو قوله : {فقد لبثت فيكم عُمُرَاً من قبله أفلا تعقلون } "16" ، ثم قال : { فمن أظلم } بالفاء ، وختم الآية بقوله : {المجرمون} أيضاً ؛ موافقة لما قبلها ، وهو : { كذلك نجزي القوم المجرمين} "13"، فوصفهم بأنهم مجرمون ، وقال بعده { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } "14" فختم الآية بقوله : {المجرمون} ؛ ليعلم أن سبيل هؤلاء سبيل من تقدمهم . قوله تعالى{ومنهم من يستمع إليك } [الأنعام/25] ، وفي يونس : { يستمعون}"42" ؛ لأن ما في هذه السورة نزل في أبي سفيان ، والنضر بن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ، وأمية ، وأبي بن خلف ، فلم يكثروا كثرة من في يونس ؛ لأن المراد بهم في يونس جميع الكفار ، فحُمل مرة هاهنا على لفظ ( من ) فوحد لقلتهم ، ومرة على المعنى فجمع ؛ لأنهم – هاهنا – قلوا فكانوا – كالواحد – وجمع ما في يونس ؛ ليوافق اللفظ المعنى. --------- وقال - جل وعلا – { ولو ترى إذ وُقِفُوا على النار } " الأنعام- 27" ، ثم أعاد فقال { ولو ترى إذ وُقفوا على ربهم } "30" ؛ لأنهم أنكروا النار في القيامة ، وأنكروا جزاء الله ونكاله ، فقال في الأولى { إذ وقفوا على النار } ، وفي الثانية { وقفوا على ربهم } ، أي على جزاء ربهم ، ونكاله في النار ، وختم بقوله { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } "الأنعام - 30" . ========================= [email protected]