فى آية ذات أهمية كبرى، فى مستهل سورة آل عمران عَرَّفنا الله على مضمون القرآن وأن فيه آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَر مُتَشَابِهَات، وحدد لنا الموقف منها، أما المحكمات فقد قال عنها «هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ»، ويكتفى بهذا كناية عن أنها أساس المحتوى القرآنى، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا جاء القرآن بمتشابهات، خاصة بعد أن ذكر أن «الذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ» يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقطع بأنه لا يعلم تأويلها إلا الله وأن «الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ» يقولون «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ» . لست أرى مبررًا موضوعيًا لذكر المتشابهات إلا أن اللغة تعجز عن تصوير عالم الغيب، ولا تستطيع أن تعبّر عن ذات الله وطبيعته، فما اللغة إلا وسيلة ابتدعها الإنسان ليمكن له مخاطبة الآخرين، ومن ثم فهى تعجز عن تصوير ما يجاوز عالم الإنسان، وفى الوقت نفسه فقد كان لازمًا للقرآن أن يعرّف الناس على شعاع من قدرة الله وعظمته، وأن ينفى عنه ما قد يتبادر فى الذهن البشرى من إثارة بشرية، ومن هنا جاءت المتشابهات، وهى الآيات التى تتكلم عن الله تعالى، وعن عالم الغيب بلغتنا، دون أن يكون فيها شىء حقيقى مادى توحى به لغاتنا، ومن هنا كان موقف «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ» . إن إعجاز الآية أن ما تنبأت به هو الذى حدث فعلاً . وأن فريقين من الناس تركا الآيات المحكمات، التى هى أم الكتاب وانحازا بكليتيه إلى المتشابهات، ووصف القرآن هؤلاء بأن فى قلوبهم زيغ، وذكر القرآن ما يعللون به هذا «الزيغ» من المحكم إلى المتشابه بأنه «تأويله» فى حين أنهم يريدون الفتنة . لقد كان ذلك هو دأب أعداء الإسلام الأولين عندما ظهر، كما كان هو دأب فريق من الذين تركوا الطريق الواسع المستقيم إلى أزقة ملتوية تحوطها المرتفعات والمنخفضات وتنطلق منها روائح الماء الآسن، وقد ظهر هؤلاء مع تفشى الملل والنحل فى المجتمع الإسلامى فى العهد العباسى مع المعتزلة أولاً، ثم مع فئات عديدة أخرى ختمت بالمستشرقين فى الغرب والذين اتبعوهم فى الشرق الذين عكفوا على المتشابهات وجعلوا ذلك سبيلهم فى الطعن على الإسلام، وإثارة «الفتنة» . نحن مع الذين يقفون عند المحكمات، ونرى أن فيها الكفاية والمقنع، وأننا أمام المتشابهات نقول «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»، ونكتفى بما وقر فى صدورنا من معنى لها دون أن نجعل ذلك محورًا لحديث أو قاعدة لإصدار أحكام.