أعشق شخصية الصحابى الجليل أبى سفيان ابن حرب .. وأشعر كلما قرأت سيرته أنه رجل كبير . . ولا أقصد بالكبير أنه رجل مسن – وإن كان كذلك إذ أنه كان أسن من النبى صلى الله عليه وسلم بأكثر من سنوات عشر – وإنما أقصد أن طباعه وأخلاقه طباع وأخلاق الكبار فى جاهليته وإسلامه . فهو مثلا يستشعر المسئولية تجاه أهله وعشيرته .. يحب لهم الخير والسلامة ولا تأخذه العصبية ولا الانانية والثأر لنفسه فينسى هذا الخلق من نفسه . ويستطيع المتتبع لسيرته رضي الله عنه أن يلحظ فيه هذا الخلق فى أكثر من مشهد .. فمثلا تراه لما نجا بالقافلة من النبى صلى الله عليه وسلم سارع فأرسل إلى قومه يدعوهم للرجوع والإنصراف عن قتال المسلمين فما الحاجة أن يقتتل ابناء العمومة ويسفك بعضهم دماء بعض وقد زال السبب الداعى لذلك – وهو القافلة – ولكن القوم لم يستجيبوا له . وتراه أيضا يسارع إلى المدينة مجازفا بنفسه ومعرضا لها للخطر مؤملا أن يستجيب النبى صلى الله عليه وسلم له فى مد المهلة وإزالة آثار الجريمة التى ارتكبها بعض الشباب المندفع الأحمق ضد أحلاف النبى صلى الله عليه وسلم من خزاعة وخوفا مما ينتظرهم جميعا نتيجة ذلك ويعرض نفسه للحرج بل وللمهانة فى سبيل قومه . وتراه أيضا ساعة الفتح يركب خلف العباس – دون صاحبيه اللذين كانا يجالسانه ساعتها – مع ما فى ركوبه من مجازفة الدخول فى جيش جاء لغزو بلده والتنكيل بأهلها فيدخل دون عقد ولا عهد مع ما يمثله ذلك من خطورة على حياته – وبالفعل كاد عمر ابن الخطاب رضى الله عنه أن يقتله – طمعا فى أن يأخذ من النبى صلى الله عليه و سلم عهدا يستنقذ مكة وأهلها من التنكيل لو دخل الجيش مكة عنوة وهم لا قبل لهم بقتاله دون أن يلتفت لما يمكن أن يلحق به من دخوله فى جيش كلهم يكرهه .. ودون أن يسعى فى أن ينجو بنفسه أو يفلت بحياته ويترك أهله لمصيرهم المحتوم ومن أخلاق الكبار أيضا استعلاؤه على خصال الصغار وأولها الكذب .. فقد جلس أمام قيصر الروم ليسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهما وما بينهما من عداء وحرب فأجابه صادقا عن كل ما سأل بما فيه من إظهار لمكارم أخلاقه وفضله صلى الله عليه وسلم وكان من السهل أن يكذب كراهه للنبى وتحريضا عليه ولكنه أبى لأنه لا يليق بمثله الكذب وقال " وأيم الله لولا أن يؤثروا على كذبا لكذبت " ومن خلق الكبار ان يستعلي عن الاخلاق الدنيئة والتي يمكن ان نسميها اخلاق الصغار. ومن أخلاق الصغار التى يستعلى عليها مثله أن يؤثر عنه أنه اذي رجلا ضعيفا او مثل برجل ميت مهما كرهه وعاداه لانه لا يملك بموته دفعا عن نفسه . وقد غلبت أبا سفيان نفسه لشدة كراهيته لحمزة ابن عبد المطلب رضى الله عنه وقد قتل من أهله بمفرده من قتل .. فلما رآه ميتا فى أحد ضربه بزج رمحه قائلا " ذق عقق " يعنى يا عاق .فشهده أحدهم فصاح مستنكرا " انظروا إلى سيد قريش يضرب ابن عمه لحما : يعنى ميتا ، فانتبه أبو سفيان لما فعل وشعر أن هذا خلقا لا يليق به فقال للرجل خجلا : اكتمها عنى " . ومن أخلاق الكبار أن يعرف للرجال قدرهم وإن كانوا خصوما له يقاتلهم .. فقد قيل له أن محمدا قد نكح ابنتك – وكان صلى الله عليه وسلم قد تزوج ابنة ابى سفيان – رملة – لما تنصر زوجهافى الحبشة - فقال رضى الله عنه " ذاك الفحل لا يقدع أنفه " بمعنى أنه رجل كريم عالى المكانة والمقام . لذلك لا نستغرب منه إذا أسلم أن يحسن أسلامه ويرتفع مقامه - فخياركم فى الجاهلية خياركم فى الإسلام - ويسعى فى الإسلام بهمته ومكانته بمثل سعيه فى جاهليته للشرك وأكثر ، كيف وقد كان صهرا للنبى صلى الله عليه وسلم فدخل فى موعود الجنة . وقد كان أحد القلة الذين صمدوا حوله فى حنين فأعطاه وابنه يزيد وابنه معاوية من غنائم حنين الشئ الكثير . وسار فى ركب الحبيب صلى الله عليه وسلم فى حصار الطائف فأصيبت عينه بسهم ففقئت فجاء بها إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له " إيها أحب إليك عين فى الجنة أو أدعو الله أن يردها عليك ، قال : بل عين فى الجنة " ورمى بها . وهكذا عاش رضى الله عنه أعور يشارك فى المشاهد مع الفاتحين ويبلى فيها خير بلاء حتى كانت معركة اليرموك فشارك فيها تحت راية ابنه يزيد – وكان أحد قادة الجيوش الفاتحة – ويشارك قادة الجيوش فى إعداد خطة المعركة بماله من حنكة وخبرة . . ثم كان له الدور الأكبر – على سنه الذى جاوز الثمانين – فى التعبئة بل وفى القتال حتى جاءه سهم آخر فأتى على عينه الثانية فعاش أعمى حتى مات بعد تسع سنين من ولاية ابن عمه عثمان بن عفان رضى الله عنهما . رحم الله أبا سفيان . ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب أنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءا منه . بكاه أهله لما احتضر فقال لهم : لا تبكوا على فإنى لم اتنطف بخطيئة منذ أسلمت " . اللهم إنا نشهدك اننا نحب الله و رسوله وصحبه الكرام ونرجو أن يحشرنا الله معهم وإن لم نعمل بأعمالهم .