لا من الحكمة ولا من الإيمان البكاء على اللبن المسكوب فما كان كان وانتهى والأهم أن ننظر لما يجب أن يكون حتى نتدارك ما فاتنا وهو على كثرته وأهميته وتأخر تحقيقه ما زال ممكن التحقيق إذا خلصت النوايا واشتدت العزائم فالحرب لم تنته بعد حتى لو تخللتها بعض المعارك الخاسرة فالعبرة بالنتيجة النهائية التي يكون فيها الحسم وإعلان النصر والذي سيكون بلا أدنى شك لصالح أصحاب الحق الذين يدافعون عن الدين والدم والعرض والكرامة. أقول هذا على خلفية المعركة حامية الوطيس الدائرة الآن بين مجموعة من القضاة المصريين الذين يتزعمون نادي القضاة وبعض الأطراف الإسلامية التي انتفضت تنادي ب"تطهير القضاء" بعدما ثارت غضبة الشارع المصري عقب البراءات التي حصل عليها الرئيس المخلوع حسني مبارك وبعض رجال نظامه والتي مثلت للبعض كابوسا فظيعا بإمكانية أن يعود مبارك لبيته وقد تم تبرئته تماما من سفك دماء الشهداء الذين فاضت أرواحهم وهم في ميادين الثورة بل وتخيل البعض مغتاظا أن عودة مبارك مجددا للحكم باتت أمرا وارد الحدوث لتصبح النتيجة وكأن شيئا لم يكن. وبعيدا عن مسار الصراع بين الطرفين وجوهره فإن تفجر الأزمة في ذاتها كان كاشفا للكثير من الملاحظات التي يجب تأملها واستقراءها بشكل عميق ذلك لكونها من الممكن أن تساهم بشكل كبير في فك طلاسم جوانب من المشهد السياسي ومن هذه الملاحظات ما يلي: 1- أن الأزمة أوضحت إلى أي مدى وصلت التناقضات داخل المشهد السياسي حتى أضحى عبثيا يثير الضحك أحيانا ويدفع إلى البكاء أو الجنون أحيانا أخرى ففي حين تشهد العلاقة بين القضاة والرئاسة ومعها جماعة الإخوان حالة من التوتر غير المسبوق نجد بعض الأطراف السياسية المعارضة تستغل جهل الجاهلين وسذاجة الساذجين للترويج بأن البراءات التي حصل عليها المخلوع مبارك وبعض رجاله ليست إلا صفقة سياسية بين الإخوان والنظام البائد وبالطبع في ظل رعاية قضائية إذ المفترض أن المنوط به تنفيذ هذه الصفقة هم القضاة الذي لا يمكن أن تتم إلا بهم. ولا يعني هذا – بحسبان هؤلاء - إلا أن الصراع بين الإخوان والقضاة مجرد مسرحية هزلية تم إعدادها بمعرفة الطرفين حتى ينطلي الأمر على الجماهير فلا الإخوان يتحملون وزر الصفقة بمفردهم ولا يمكن في ذات الوقت توجيه أصابع الاتهام للقضاة بمفردهم وهي بالطبع معادلة صعبة للغاية وتحليل لا يستهدف إلا تشويه صورة الطرفين لصالح طرف ثالث لا يشغله إلا تحقيق طموحاته السياسية ولو على حساب حرق الوطن وجثث الآخرين . 2- أن المعارضة لا تفتأ تتحدث عن احترام القانون وأحكام القضاء لكن إذا تعلقت هذه الأحكام بمخالفيهم وجاءت داعمة لمخططاتهم في تفكيك بنيان الدولة وإسقاط مؤسساتها أو في التشديد على نشطاء الإسلاميين أما إذا تعلقت الأحكام والقرارات القضائية بهم فإن أحكام القانون في هذه الحالة لا قيمة لها بل يصبح من باب النضال السياسي أن يضرب بها عرض الحائط . ومن النماذج الفجة على هذا النهج المتناقض رد فعل النخبة السياسية المعارضة على قرارات النائب العام بطلب إحضار عدد من الناشطين المتهمين بإثارة التوتر واستخدام العنف في التظاهرات الأخيرة والذي تجاوز كل حدود القانون للدرجة التي كتب فيها أحد المطلوبين – وهو طالب - يسخر من النائب العام ويصفه بأنه "عيل" على صفحته بالفيس بوك. 3- يتغافل الكثيرون عن أن الذي تقدم بقانون السلطة القضائية الأخير هو حزب الوسط برئاسة أبو العلا ماضي وليس الإخوان والشاهد من ذلك أن حزب الوسط كان وما زال أحد أهم التكوينات السياسية التي انشفت عن جماعة الإخوان وكانت وما زالت العلاقة بين قيادات الوسط والجماعة على غير ما يرام رغم أن الحزب لعب دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر بين الإخوان متمثلا في الرئاسة وبين بقية الأطراف السياسية عبر ما يسمى بجلسات الحوار الوطني. لكن ذلك لم يزل الحواجز الفكرية والتنظيمية بين الحركتين ما يعني أمرين: أ- أنه ليس من المنطقي القول بأن حزب الوسط قدم القانون بالتوافق مع الإخوان أو بإيعاز منهم وإنما جاء ذلك وفق رؤيتهم الخاصة التي ربما وجدت قبولا لدى بعض الأطراف الأخرى. ب- أن الإخوان كانوا من بين تنظيمات عديدة إسلاميين وغير إسلاميين ممن تحمسوا لمشروع القانون وللدعوة الهادفة لتطهير القضاء. 4- أكدت الأزمة الأخيرة قدر التعالي الذي يتعامل به بعض القضاة مع بقية السلطات في البلاد إذ يرون أنه ليس للمؤسسات التشريعة أن تناقش قانونا لطالما ألحوا هم في طرحه والمطالبة بإقراره زمن المخلوع مع علمهم أن القوانين لا تقرها إلا المؤسسات التشريعة بعد أن تستوفي عددا من الشروط والمناقشات وهو ما يجتر الانطباعات التي رسخت في الأذهان حول بعض القضاة الذين ومن منطلق مواقعهم القانونية والاجتماعية يتعاملون مع القانون وكأنه ملكية خاصة بمعنى أنهم وحدهم فقط الذين لهم حق مخالفته والقفز فوق نصوصه إذا ما دعت مصالحهم لهذا فنجد بعضهم يمارس الوساطة والمحسوبية وآخرون يكسرون بعض القرارت والقواعد الإدارية وآخرون يتدخلون لتعيين أقاربهم ومعارفهم وغير ذلك الكثير. ولعل ما كشفته مؤخرا بعض وسائل الإعلام من وثائق ومستندات تؤكد أن العديد من القضاة قاموا بتعيين أبناءهم وأقاربهم من خريجي كليات الحقوق في النيابة العامة وغيرها برغم عدم استحقاقهم لعدم توافر شروط التعيين دليل يؤكد على أن ما كان يحدث جزء من منظومة الفساد في العهد السابق. 5- تفتح الأزمة الحديث مجددا عن قضية تعيين القضاة بعد وصولهم سن المعاش في مناصب إدارية وتنفيذية عليا كالمحافظين أو رؤساء الشركات القابضة أو استشاريين في الوزرات فهذا في حد ذاته يعد أحد أبواب المفاسد التي يمكن أن تدخل سلك القضاء والتي يجب أن يعاد النظر فيها ويتخذ بشأنها قرارات من شأنها أن لا تجعل للقاضي أي طموحات سوى تحقيقه للعدل وللنزاهة. 6- كشفت الأزمة أن القضاة يعيشون حالة من الغليان ليس لأن القانون يطالب بخفض سن المعاش للستين لكن يبدو أن صفوفا من القضاة بالفعل تعارض التغيير السياسي الحاصل في البلاد ويبدو أنهم غير راضيين عن المسار الثوري. 7- ينقلنا هذا أيضا للرد على ما يتحدث البعض بشأنه من أن هناك خطأ في اختيار توقيت طرح القانون والحقيقة أن طرحه تأخر كثيرا فقد أثبتت الأيام أن الثوار أخطأوا عندما لم يصروا على تحقيق مطلب تطهير القضاء في بداية الحراك الثوري. 8- ويرتبط بما سبق أيضا أن الثوار أخطأوا أيضا عندما ارتضوا منذ البداية أن يحال رموز الفساد للمحاكم الجنائية العادية وفق القانون العادي فقد أصبح واضحا أنه كان يجب أن يحاكم هؤلاء أمام محاكم ثورية تلبي طموحات الجماهير. وهنا وبشكل موضوعي نؤكد أن القضاة لا يتحملون كامل وزر تبرئة رجال النظام السابق فهم يحكمون وفق قانون وأوراق لا يمكن أن يتجاوزوها. 9- أن حالة من التخوف تنتاب الإسلاميين من إستجابة الدكتور مرسي للضغوط التي يمارسها نادي القضاة ممثلا في قيادته لقيامه بدوره بالضغط على حزب الوسط وحزب الحرية والعدالة بمجلس الشورى للتراجع عن إقرار القانون وهو ما سيكون له أثرين سلبيين لن يمكن لمرسي معالجتهما بيسر: الأول هو تأكيد الانطباع عن مرسي كونه مترددا في قراراته. الثاني تغول بعض القضاة واعتقادهم بأنهم فوق كل المؤسسات الحاكمة ولا يعني ذلك أننا ندعم مواصلة العناد فيما يضر فالتراجع عن الباطل حق لكن القانون في حد ذاته حق لابد من تحقيقه.