بعد حرب الثورة لم يكن تسريح الجيش الأميركي قد تم وتباطأ الكونجرس في صرف الأجور المستحقة له وقد وعد الكونجرس بتصحيح الكثير من الأخطاء مرات عديدة ولكنه لم يف بوعوده. وكان ضباط الجيش يعرفون أن «جورج واشنطن» لن ينتزع السلطة من يد السلطات المدنية مهما كان مبرر ذلك عادلًا ومقنعًا. وقد طالب ضباط الجيش منه ذلك مرارًا فرفض فأعلنوا أنهم يريدون أن يتظاهروا في الكونجرس وأن يُنصبوا «واشنطن» حاكمًا ويخلعوا عليه لقب «الديكتاتور»، فأخبرهم أن هذا الأمر يُعدُّ خيانة وتعديًا على حق الأمة؛ ولكنهم لم يعيروا كلامه هذا اهتمامًا لاسيَّما أنه لم يَعُد وقتها قائدا رسميا لهم. عقد قادة الجيش اجتماعًا للإعداد لحركة التمرد وتنصيب «واشطن» حاكمًا ولما علم بذلك ذهب للاجتماع أملًا بإقناعهم بالعدول عن فعلهم هذا وطلب منهم فرصة للكلام وأعطوه بالفعل مجالًا للحديث فتكلم ما يزيد على ساعة ذكر فيها أسباب حربهم وبطولاتهم وهدفهم السامي، ثم ذكر الانعكاسات السلبية لفعلهم على الأمة إن هم تمردوا، وذكر الجهود التي يحاول الكونجرس القيام بها لصالح الشعب، وبذل لإقناعهم كل ما يستطيع لكن هذا لم يفد شيئا، فالضباط رفضوا طلبه وذكَّروه بالوعود التي لم يف الكونجرس بها ثم قرروا تنفيذ القانون بأيديهم. كان «واشنطن» وصل وهو يرتدي عباءته ويضع نظارة على عينيه ولم يكن أحد رآه بها من قبل، وطبقا للفكر السائد وقتها كانت النظارة تعني نوعا من الضعف الجسدي الذي لم يكن القادة وكبار الشخصيات يرغبون أن يظهروا به. وبينما هو يضع نظارته ببطء قال كلماته الأخيرة لضباطه السابقين: «أيها السادة لقد كبُرت سني في خدمتكم وها أنذا أوشك أن أكون أعمى»، وبينما كان يغادر الاجتماع أجهش الحضور بالبكاء وخيمت حالة من الصمت على الجميع حتى كسرها أحدهم قائلًا: «ليس أمامنا من خيار وقد يكون «واشنطن» مُصيبًا، فلنُعْط الكونجرس فرصة أخرى». لم يكن ضباط الجيش يعلمون أن «واشنطن» كان يستخدم النظارة منذ عدة أعوام ولكن بشكل غير معلن حتى لا تهتز صورته في نفوس الناس، إلا أنه في سبيل الدفاع عن بلاده حرة وكيلا تهتز ديمقراطيتها ولا تخضع لسيطرة ديكتاتورية عسكرية قَبِل أن يظهر بهذه الصورة المهزوزة واستخدم هذه الحيلة الذكية والمشبعة بقدر كبير من العاطفة فنجح في التأثير في قرار الضباط بعدما فشل الأسلوب المباشر في إقناعهم. إن من مميزات الإنسان الناجح احترام الآخرين وعدم فرض آرائه بالجبر بل باستخدام الأساليب اللطيفة وغير المباشرة. فالذكاء والدهاء والحيلة تُعتبر نقاط قوة وقدرات متميزة في شخصية الإنسان الناجح وتضيف إليه قدرًا كبيرًا من الكاريزما وسحر الشخصية بما لا يوقعه بالكذب الحرام ولا بالإضرار بالآخرين ممن لا يستحقون ذلك. إن الإقناع اليوم مهارة الجزء الأكبر منها مكتسب بالتعلُّم والتفكير والممارسة وقد ظهرت الكثير من المدارس المتخصصة في فن الإقناع والتأثير. ومن يمتلك زمام هذه المهارة يسير العالم كلُّه خلفه ويُسهِّل عليه الصعب ويُقرب إليه المُراد ومن يفتقدها يسير في طريق مظلم وتَصعب عليه أموره ويَخسر الكثير. لقد كرم الله تعالى الإنسان بالعقل عن باقي المخلوقات وجعله مناطًا للتكليف وسببًا للاكتشافات وصناعة المخترعات واستعمار الأرض. والعقل هو آلة العلم التي فاضل الله بها بين عباده في الدين أو الدنيا قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. وتقديم العقل والدهاء على القوة والصدام والعنف في الوصول للمطلوب وحل المشكلات أمرٌ محمود وأقلُّ كلفة. يقول الشاعر محمود سامي البارودي: قد يُدرك المرء بالتدبير ما عجزت عنه الكُماةُ، ولم يَحمل على بَطل وفي غزوة الخندق عندما كان المسلمون محاصرين من حلف بين قريش ويهود بني قريظة جاء نعيمُ بن مسعود الأشجعي إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله لقد أسلمت ولم يعلم بإسلامي أحد من قومي، فقال عليه السلام: (إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت) ففهم نعيم الرسالة واستخدم قوة الحيلة والدهاء فمضى إلى يهود بني قريظة وكان نديمًا لهم فأقنعهم بخطر وضعهم وشككهم في حلفائهم المشركين وأشار عليهم أن يطلبوا عشرة من أبنائهم رهينة عندهم لضمان وفائهم، ثم رجع إلى قريش وقال لهم: إن اليهود ندموا على غدرهم بمحمد ويريدون مراضاته بعشرة من أبنائكم يدفعونهم إليه، فما زال بهم بالحيلة والدهاء حتى أوقع بينهم، وحين طلب كل فريق ما أشار به عليه نعيم بن مسعود قال كل من المشركين واليهود: هذا ما أخبرنا به نعيم، فتخاذل المتحالفان ورفع الله بالحيلة والدهاء وأقل الأعباء معاناة المسلمين ونصرهم على الأعداء. أكاديمي وكاتب قطري [email protected] http://twitter.com/AlThani_Faisal