لخص «نابليون بونابارت» استراتيجيته في التخطيط العسكري فقال: «إن التخطيط معناه أن تنخرط في القتال ثم تنظر وترى النتيجة»؛ فمن خلال الاشتباك مع الأعداء ثم تحسين الخطط نجح «نابليون» وجعل جيوشه موضع حسد أوروبا، وتلمس أعداؤه في الشمال -البروسيون- طريقتهم من أجل تحقيق الأفضلية عليه، والتأكد من أنهم لن يستمروا في الخسارة أمام الفرنسيين واهتموا باستراتيجية الدخول في التفاصيل أثناء التخطيط. أما الضباط في البلاد الأخرى فقد سخروا من فكرة أن يجلس الجنود على الموائد ويمسكوا بالأوراق والأقلام ليضعوا الخطط المفصلة. ولكن اتضح فيما بعد أن هذا النوع من الخطط المفصلة كان ذا فائدة حقيقية، وفي المرة التالية التي تلاقى فيها البلدان حقق البروسيون انتصارًا مدويًا على الفرنسيين. وبحلول الحرب العالمية الأولى كان الجميع يضعون الخطط التفصيلية، وبحلول الحرب العالمية الثانية كان القادة العسكريون يتمتعون بمهارات بيروقراطية لما يطلق عليه أكثر تمارين التخطيط والتنفيذ تعقيدًا في التاريخ وهي «غزوة نورماندي»؛ حيث لم تكن قوات الحلفاء التي نزلت على الشواطئ والتي تقدر ب160000 جندي كبيرة, مقارنة بقوات «نابليون» الذي زحف إلى روسيا بقوات تزيد على 400000 جندي، ولكن هذه العملية تم التخطيط لها بكل دقة، لدرجة أن المخططين ابتكروا تقويمهم الخاص بهم من أجل عملية إنزال القوات في اليوم «دي» في الساعة «أتش» بعد 1.5 ساعة من الشفق البحري. وكانت قائمة المهام تحتوي على التعليمات التي تغطي عمليات الاستعداد مثل تواصل القصف بالقنابل في اليوم «دي-3»، ثم عملية الغزو نفسها. واستمر التخطيط طوال الطريق حتى اليوم «دي+14»؛ حيث حددت الأماكن التي ستصل إليها التعزيزات لمدة أسبوعين كاملين بعد بدء القتال. وربما يبدو أن ثقة المخططين العسكريين كانت أكثر جرأة من «نابليون» ولكن نجاحهم زاد من ثقة الجميع بقدراتهم. وبعد انتهاء الحرب كان لدى أميركا المتحدة أبطال جدد في التخطيط يطلق عليهم «العباقرة» وهم مجموعة من المحاربين القدماء الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، الذين قاموا بإعادة تنظيم شركة «فورد موتور» للسيارات، وكان قائد هذه المجموعة هو «روبرت. س ماكنمار» الذي كان يقوم قبل الحرب بتدريس المحاسبة في كلية إدارة الأعمال بجامعة «هارفارد»، حيث كان بالانتفاع من مهاراته الرياضية في تحليل مهمات القصف بالقنابل في مكتب الرقابة الإحصائية التابع للقوات الجوية، وأدى نجاحه في هذه المهمة إلى الحصول على وظيفة في شركة «فورد» للسيارات، ثم عاد إلى العمل العسكري ليصبح وزيرًا للدفاع, وقدم لوزارة الدفاع الأميركية أدوات دقيقة وجديدة للتخطيط تعتمد على مبادئ «تحليل الأنظمة» وقدر كبير من البيانات، وكان يبدو أن «ماكنمار» نموذج حقيقي للمحارب العصري، إلى أن ظهر مدى سوء خططه في حرب فيتنام. فبينما كان يجلس في مبنى البنتاجون يخطط للتخلص من الأعداء استنادًا إلى إحصاءات الإصابات التي كان يراها أمامه، كان الجنود في الغابات يكتشفون أنهم لا يستطيعون الثقة بهذه الإحصاءات أو الخطط. إن الهزيمة في فيتنام لقنت القادة العسكريين درسًا جديدًا في احترام الحاجة إلى المرونة، وهذا الدرس عززته الخطط التي ضاعت سدى في أفغانستان والعراق. ففي بعض الأحيان ربما يجدر الانخراط في المعركة ثم التعديل وفق ما يلزم حسب هذه الاستراتيجية من التخطيط كما قال «نابليون». إن المياه تُشكل مجراها طبقًا لطبيعة الأرض التي تجري عليها، والجندي يصنع نصره طبقًا لطبيعة العدو الذي يواجهه، والناجح يصنع نجاحه طبقًا لطبيعة العقبات التي تعترض أهدافه. فكما أن الماء لا يمكن أن يتخذ شكلًا ثابتًا، فهكذا هي طبيعة الحياة، والقائد الذي يتحلى بالمرونة لكي يستطيع تعديل خططه ويعيد صياغتها حتى تتكيف مع ظروفه الداخلية ومحيطه الخارجي، وينجح في تحقيق الفوز يمكن أن نسميه قائدًا بالفطرة. وفي العام السادس للهجرة وبعد معاركه الشهيرة ضد قريش ومن معها من المشركين قدم النبي عليه السلام إلى مكة، يريد أداء العمرة وساق معه الهدي لبيان الغرض الذي من أجله جاء، ومعه 1400 من المسلمين، وجاء لزيارة البيت لا للحرب، ولكن أبى المشركون أن يخلوا بينه وبين تحقيق غرضه، وعقدوا معه صلحًا سمي «صلح الحديبية» كانت بنوده في ظاهرها مجحفة في حق المسلمين وفي مقدمتها تخلي الرسول عن دخول مكة في هذا العام, وهو الهدف الذي قدم من أجله، ولكن النبي عليه السلام نحر الهدي في إشارة إلى قبوله بتلك الشروط، وأبدى مرونة فائقة لم يستوعبها كثير ممن كانوا معه من الصحابة. إن مرونة النبي عليه السلام أحدثت الفرق في هذه اللحظة الخطيرة، فهي لم تُحدث فارقًا بحقن الدماء فحسب، بل فتحت الأبواب مشرعة للنجاح الذي حققته دعوة الإسلام بعد ذلك، ولئن منع 1400 مسلم من أداء العمرة هذا العام، ففي العام القابل أدى العمرة عشرة آلاف، واليوم من بين كل أربعة من سكان العالم يوجد مسلم يتبع هدي رسول الله، ومن هنا فلا غرابة أن يخلد ذكر هذا الصلح، وأن يسميه الله تعالى بالفتح المبين. [email protected] http://twitter.com/AlThani_Faisal