المعلوم أن الثورة حين تقوم على أي نظام فإنها لا تقوم على السلطة التنفيذية وحدها وإنما تقوم على النظام كله سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية ، ومن ثم فقد خدع المصريون خدعة كبرى حين سلموا ثورتهم للقضاء فكل مظهر من مظاهر الفساد وكل صراع يتحول في النهاية إلى قضية إما أن تحقق وإما أن تدلف لساحة المحكمة فأما القضايا التي سيقت إلى النيابة العامة للتحقيق فيها تم طمسها وقتلها في مهدها - عمدًا أو إهمالاً - وتم لها الحفظ تحت دعوى السداد وجبر الضرر فى قضايا الأموال العامة وحين ترى كيف تم جبر الضرر تضحك كثيرًا على المنهج والطريقة فلو أن أحد كبار الفسدة وهم معروفون حصل على شقة أو فيلا من إحدى الشركات العقارية مثلاً بثمن بخس - وهو الأمر الذي كان متبعًا - بمبلغ مليون جنيه في حين أنها تساوي عشرة ملايين فإن الشركة عند التحقيق واكتشاف الجريمة تقوم بإعادة التقييم عند الرد وتعطى لها ثمنًا مضاعفًا أضعافًا كثيرة وتستردها وتدفع للفاسد الفرق أي أنه يخرج رابحًا وأعلم أن ذلك كان من أسباب الحفظ لعديد من القضايا على يدي النائب العام وقاضي التحقيق في القضايا المشابهة. هذا مثال وحيد وعندي غيره الكثير، وأما القضايا التي أحيلت للمحاكمة فهيا ضعيفة مهلهلة لا تصمد تحت أي معول قطعًا فتكون البراءة لها نصيبًا وانظر معي إلى قضايا قتل المتظاهرين جميعها بل حتى قضايا الفساد المالي بل أن من قضايا القتل من شهدها الناس على الشاشات وهى ترتكب ومع هذا فلا فاعل وإذا ما انتقلت إلى قضاة التحقيق وهو أمر ظهر في أثناء الثورة وأعقابها تجد أن تلك التحقيقات في غيابة الجب مجهول ما تم فيها، وعدد وقائع مجلس الوزراء وماسبيرو والعباسية وغيرها الكثير، أما ما انتهي منها أي المسندة لقضاة التحقيق فهي تحقيقات قاصرة مبتسرة لا تجد إلا البراءة على قارعة الطريق. وأما محاكم الجنايات فإنها أبدًا وهي التي تملك سلطة التحقيق النهائي لم نجد محكمة واحدة تعمل هذه السلطة واسأل معي لماذا؟! وحق التصدي لم يستخدم سوى مرة واحدة رغم توافر عناصرها وكانت هذه المرة في قضية تراخيص السياحة وأحيلت للأسف إلى النيابة العامة فحفظتها لجميع المتهمين وذات محاكم الجنايات انبرت في إلغاء أوامر المنع من التصرف للفسدة وآخرها قضايا رجال الأعمال في البورصة وترفض كشف سرية الحسابات في قضية شهيرة في سابقة لم تحدث رغم أن التحقيق يكون للوصول للحقيقة وقد يكون في الكشف مصلحة المتهم وهي أيضًا تقضي بالبراءة على سند من أن نص الإدانة غير دستوري رغم أن المحكمة الدستورية العليا لم تقض بعدم دستورية النص وهي المختصة بالبت في هذا الأمر. وأما مجلس الدولة فحدث ولا حرج فقد تصدى بالمرصاد لكل فعل يدفع للأمام فهو يغتال الانتخابات التشريعية فيما سلف ويحكم بإعادة الانتخابات لأسباب غير جوهرية فتعاد وتنفق الأموال وينجح ذات المرشحين ويتصدى من تلقاء نفسه في سرعة عجيبة لدستورية قانون الانتخابات ويحيله للدستورية العليا فتتلقفه وتقضي بعدم دستوريته وتحل المجلس في خمسة وأربعين يومًا بالتمام وهي مدة لا تتسع للفصل في جنحة ضرب أمام القاضي الجزئي، ومجلس الدولة نفسه الذي تفرغ للانتدابات وتلك قضية أخرى تصدى للجمعية التأسيسية فكان يضرب فيها كل يوم معولاً رغم أنها صدرت بقانون والدستورية العليا تحيى موت ما يسمى منازعة تنفيذ وتقوم بإلغاء القرارات والقوانين في سرعة عجيبة ودأب غير مسبوق، وانظر إلى المحكمة الدستورية العليا التي تفصل في حل مجلس الشعب في سرعة عجيبة هي ذاتها المحكمة التي ينظر أمامها طعن بعدم دستورية قانون الطوارئ لمدة تزيد على خمسة عشر عامًا فلم يفصل فيه بعد والإدارية العليا تؤجل طعنًا على حكم لتقدم هيئة قضايا الدولة تفويض الرئاسة لها، والمعلوم أن تلك الهيئة قضائية ونائب قانوني بنص الدستور يطعن لمصلحة القانون بل أن الندب لا يزال عندهم ساريًا رغم أن الدستور يحظر ذلك الندب ويحدده في الندب الكلي الذي سينظمه القانون، أما الندب الجزئي فهو بالبداهة محظور إلا أنهم فسروه على أنه مباح إلى أن يصدر القانون ومنهم قسم رأى فيه شبهة عدم الدستورية وأحال الأمر فيه للمحكمة الدستورية العليا. وعجيبة الأعاجيب ذلك الحكم الصادر من دائرة طلبات القضاة بمحكمة استئناف القاهرة ببطلان تعيين النائب العام الحالي وهو حكم مخالف للدستور، الذي حصن الإعلانات الدستورية وحدد مدة النائب العام بأربع سنوات، فضلاً عن مخالفة ذلك الحكم لحكم صادر من محكمة الجنح المستأنفة قضى بصحة التعيين وفصل فى مسألة مشتركة بينه وبين الحكم الصادر من محكمة الاستئناف والحكم الأخير أفسح له الإعلام صدره، والعجيب أن الدائرة أصدرت الحكم دون أن تودعه معه أسبابه وكأنما المقصود أن نخوض في المتاهة والبدعة المسماة شباب النيابة العامة التي تترك عملها وتدور على الفضائيات ويضربون عن العمل ولم نسمع أنهم سكبوا دمعًا على زملائهم الذين أهينوا أمام مكتب أمن الدولة برشيد وحفظت قضيتهم في الأدراج حتى إذا ما قامت الثورة أحيلت للمحكمة وأين النائب العام الحالي من تقرير تقصي الحقائق بشأن أحداث الثورة وما بعدها ولماذا هو عنه صامت وماذا عن قضية الفتية الذين دلفوا إلى نادي القضاة فأوسعوا ضربًا واتهموا قضاة بضربهم واتهمهم قضاة بالشروع في القتل لماذا يلفها الصمت العميق أم تراها ألقيت في جب سحيق ولماذا أليس كل الناس أمام القانون سواء؟! وماذا عن الحصانة التي ضرب أمد للفصل في أمرها أسبوعان فاستطال الأمد إلى حيث لا يعلم المدى أليس كل الناس أمام القانون سواء؟! وماذا تم في التحقيق مع من سمح بسفر المتهمين الأجانب في قضية التمويل؟ تلك الدائرة غير المختصة والمصنوعة لهذا الغرض والتي تصدت لقرار من اختصاص محكمة الموضوع التي جأر رئيسها بالشكوى. والسؤال الآن وقد رصدنا شيئًا من المظاهر والعلامات - وأتوقع أننا سنرى المزيد في قادم الأيام - لماذا كل ما تقدم وغيره وبعده الكثير؟ الحق أن القضاء المصري - في قطاع منه - ابن بار للنظام القديم فقد صنع على عينه وتمددت السلطة التنفيذية في شرايينه حتى كانت تختار الرجال وتمد السن من أجلهم - وجميع ملابسات مد السن كانت مشخصنة - وهذه السلطة التنفيذية هي التي أفسدت الجميع بالانتداب - وأعطت لكبارهم وأواسطهم الأراضي ولو فتح هذا الملف لأتى بالكثير - وصارت المصالح تتمدد في شرايين الجسد القضائي عبر جسور موصولة من المودة بينه وبين السلطة التنفيذية القديمة. وإذا ما فتشت في أعضاء هذه السلطة القضائية لوجدت الروابط الاجتماعية وروابط القرابة بين أعضائها وحماة النظام القديم إن أبناء قيادات الأجهزة الأمنية الذين كانوا سببًا في الثورة يقبع أبناؤهم في القضاء المصري بكافة فصائله وغير هذا كثير كثير. وانظر معي إلى محكمة استئناف القاهرة وانظر إلى تشكيل الدوائر بمحاكم الجنايات فيها تراه تشكيلاً قديمًا عتيقًا لم يتغير أفراده منذ سنوات وهو ضد الطبيعة البشرية وضد سنة التغيير وينبغي وضع آلية حتى لا يستمر التشكيل في هذا الثبات الآسن المميت. وأما القضاة فقد تنازعوا وتفرقوا ما بين أناس يؤيدون رئاسة نادي القضاة الحالي وآخرين يدعون أنهم من تيار الاستقلال وكلا الفريقين على باطل بيد أن هناك قسمًا كبيرًا لا هو مع هذا ولا ذاك وهذا القسم الكبير صامت وهذا هو مبتغى الأمل لأن الأول يريد الوضع القديم والثاني يدعي أنه مع الوضع الجديد وحين يشعر أن الأمور ستتغير يعود ويهرب مسرعًا من السفينة وانظر إلى موقفهم من الإعلان الدستوري إدانة قوية ثم لا يستقيلون من مناصبهم التنفيذية ويظلون في مواقعهم لأنهم يريدون السلطة والمعارضة في آن واحد وتلك قصة قديمة يعرفها من خبر تاريخ الصراع السياسي والقضاء الآن يحكم بالعناد والكيد والحالة المزاجية دون التمحيص في الأوراق وحين تطالع أسباب الأحكام تجد انعدام علاقة بينها وبين الموجود فعلاً ولعل هذا هو السبب في نقض كافة الأحكام، وذلك أمر طبيعي لأن فريقين يتصارعان والقضاء في الأصل لا ينبغي أن يعرف الحزبية ولا يعرف التوجه السياسي ولا يحكم بالحالة المزاجية، القضاء الحق هو الانتماء للمهنية وهو الانتماء للأوراق وهو لا يعتمد على لحن الحجة وإنما يعتمد على المنطق والثابت من الأوراق والأخذ من المطروح أمامه وما يستنبطه من قراءة الأوراق والتحقيق النهائي الذي يجريه فإن حضرت السياسة - وهي لا شك حاضرة من وجهة نظري على الأقل - فسد كل شىء سواء في التحقيق أو في القضاء. إن قضاة يقبعون في الفضائيات ويهرفون بالميكروفونات ويقيمون التوازنات السياسية حتى يقال إنهم يدافعون عن القضاء أو يدعون أنهم تيار للاستقلال هم أول مَن ينبغي أن يتبرأ منهم القضاء فالقاضي يحكم وفقًا للأوراق وعبر وسائل القانون المعروفة وهو يطبع الأوراق بفكره واستنباطه واستخلاصه ويصوغ ذلك جميعه من وجدانه وعقله في أسباب حكمه لتكون كتابًا يشهد عليه وقرأه الناس فإن اتخذ الفضائيات مكانًا وداعب الساسة وغازلهم فعلى القضاء السلام. إن القضاة الآن فرق متناحرة ذات صوت عالٍ لأن السياسة حضرت في المشهد ومنهم عدد أبناء للنظام القديم يعتبرون أنفسهم صفوة لا ينبغي لأحد أن يقترب منهم ومن مغانمهم، والفريقان اللذان يتصدران المشهد يظنان أنهما هما الوحيدان وكل يريد أن يطوع القضاء لمصلحته. والقضاء الذي نريده هو ذلك القضاء الذي يتخذ منهج المهنية وعدم الميل لأي طرف والتعامل مع الوقائع والقضايا بمنهج الحياد يبحث عن الحقيقة ويجتهد في سبيل إظهارها دون نظر لما يسفر عنه البحث، وغايته هي الوصول للحق وهو معصوب العينين لا يعرف أحدًا يميل مع الحق حيث يميل، لا أن يضع نصب عينيه هدفًا قبل أن يبحث ويمحص. وإنه القضاء الذي ينتمي إليه محمد نور رئيس النيابة صاحب القرار الشهير في قضية كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وهو الذي ينتمي إليه حافظ سابق صاحب قرار الإفراج عن كتاب خالد محمد خالد صاحب من هنا نبدأ، وهو الذي ينتمي إليه عبد اللطيف محمد صاحب كتاب التشريع السياسي، والذي لا يعرفه أحد من القضاة، وهو القضاء الذي ينتمي إليه عبد العزيز باشا فهمي صاحب حكم مأمور البداري. إنه القضاء الذي يعلي من شأن المهنية والانتماء للحق أيًا كان المتنازعان وهو ما لا نجده الآن في كل الفرق القائمة فهم جميعًا يدعون الاستقلال ويكذبهم الواقع ومنهم من يدعي الدفاع عن القضاء وهو لا يدافع إلا عن نفسه حتى لا يقع تحت طائلة العقاب. أقول قولي هذا - ومثلي كثيرون لم يسبق أن تكلموا - لعدم وجود أواصر صلة بينهم وبين الإعلام وأنا أؤكد أنني لا أدافع ومن هم مثلي إلا عن مهنية القضاء والانتصار لفكرة وضرورة اختيار نخبة من أفاضل الرجال والعناصر منذ بدء التعيين والترقي في سائر مراحل العمل تكون زادًا وذخيرة لبناء قضاء مهني محترم مع حظر الانتدابات مطلقًا وإيجاد وسائل فعالة لمراقبة القضاة وتنمية استقلالهم وكل ذلك لن يكون إلا بقانون جديد لكل الهيئات القضائية قاطبة تصوغه الأمة مجتمعة ويشترك فيه الجميع لأن القضاء لا يخص القضاة وحدهم - وذلك لنبني قضاءً مستقلًا شرط البقاء فيه الكفاءة والمهنية. أما القضايا الناشئة عن الثورة فهي والحق يقال لا تحتاج إلا إلى قانون للعدالة الانتقالية - يعرفها العالم كله - ويتصدى لها قضاء مهنى حتى تطوى هذه الصفحة الكئيبة. فإما أن نصوغ قواعد المسألة ونضع قوانين للهيئات القضائية جميعًا مبناها الكفاءة والمهنية في العنصر القائم على التطبيق وإلا فإننا نحرث فى البحر وما لم يتم إصلاح القضاء ويعود إلى المهنية فكل ما سنفعله سيذهب أدراج الرياح. إننا ينبغي أن نسلم أن منظومة القضاء المصري في حاجة إلى تطوير وإنه قد رانت عليه كثير من المثالب وإلا فلماذا خرج علينا مؤتمر العدالة الأول ولماذا خرج علينا العظيم يحيى الرفاعي بمقاله الشهير (أنعي إليكم العدالة في مصر). وإذا ما فتشت لوجدت الثورة كان من بين أسبابها عدم قيام القضاء بواجبه أليس تفتيش أقسام الشرطة ومراكزها وكذا السجون ومقرات الاحتجاز واجبه وهل لو كان يقوم بهذا الدور أكانت الثورة قد قامت وانظر كم حكمًا صدر بإدانة من احتجز شخصًا بغير حق أو عذبه وهل نسيتم بدعة حفظ كافة القضايا ضد من يتهم بالتعذيب أو استعمال القسوة بمصطلح (استبعاد ما نسب). وفتش في سجل من يعار للخارج نجد منهم ثابتين لا يتغيرون واسأل معي أين قيادات وزارة العدل في عهد الوزير الأخير قبل الثورة تجدهم قد سافروا للخليج حين فقدوا كراسيهم الوثيرة فهم إما منتدبون أو معارون أما السواد الأعظم من جسد القضاة فهم مذلون مهانون وهو أحد عناوين روايات دوستوفسكي ، القضاء يا سادة يحتاج إلى إعادة تنظيم وليس كل حكم قضائي محققًا للعدل لمجرد صدوره من محكمة إذ العبرة بالمضمون وليس الاحتفال بالشكل وإلا عددنا محكمة دنشواي عادلة إن القضاء لا يرقي إلى السمو إلا بمقدار سعيه للعدل ومن ثم يجب إعادة التنظيم منذ بدء التعيين مرورًا بكافة المراحل ليعود قضاءً مهنيًا يكون حقًا ما يصدر عنه باسم الشعب يأنس إليه القوي والضعيف. وبعد فإن تلك كلمات تعبر عن ما يجيش به صدري ويعتمل في وجداني وقد تجر على المتاعب من أهل المهنة إلا أن تعبي الأكبر إن صمت عن قولها وهي تعبر عن قطاع كبير من القضاة يلوذ بالصمت فهي إذًا هتاف الصامتين وحرضني على قولها سيد أهل الحكمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل» ووجدت في قول المتنبي سندًا حين قال: صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عنانا ولو أن الحياة تبقى لحي لعددنا أضلنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا