بكل تعجب أستعيد من ذاكرتي الفترة التي تولى فيها المجلس العسكري إدارة شئون البلاد، عقب رحيل مبارك، وكيف وثق فيهم المصريون، وانصاعوا لإرادتهم. ولم تمر أيام، حتى شكك البعض في ولاء الجيش للإخوان، واحتمالية تسليمهم السلطة لشعبيتهم وقوة تنظيمهم، وذلك عقب استفتاء مارس2011. وحينها انقسم الشارع المصري في نظرته للجيش؛ فالبعض راهن على بقاء الجيش في السلطة وعدم تركها بسهولة، أو على الأقل الحصول على نصيب كبير منها . وعندها هتفوا بما يعبر عن قلقهم، "يسقط يسقط حكم العسكر"، وطالبوه بالرحيل "قولها متخفشي.. العسكر لازم يمشي". والبعض الآخر وهم معظم الإسلاميين، رأوا أنها فترة انتقالية ولابد من وجوده لحماية البلاد، مع الضغط الشعبي عليه لوضع جدول زمني لتسليم السلطة ورسم خارطة طريق لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتسليم السلطة لرئيس مدني منتخب. وانتهى الأمر بعد محاولات ومراوغات من جانبهم للبقاء في السلطة، والبحث عن دور يضمن لهم الحصول على بعض المكاسب والمميزات، ولكن الله سلم ولطف، وخرج العسكر من المشهد السياسي بطريقة أذهلت العالم كله، وكانت بمثابة معجزة سياسية لم يتخيلها الناس. وتولى الرئيس مرسي الحكم بسلطة كاملة غير منقوصة، واستبشر الكل وفرح بالخروج الكامل للعسكر من السلطة، ليعودوا إلى ثكناتهم، ومكانتهم العالية المحفوظة في صدور كل المصريين، ومهامهم التي لا يقوم بها غيرهم، فهم الأقدر على حماية الثغور والحدود والدفاع عن البلاد ضد أي عدو خارجي متربص. ودارت عجلة الحياة، واكتملت معظم مؤسسات الدولة أو كادت أن تكتمل، وكاد الشعب أن يستريح من عناء الفترة الانتقالية وبناء كافة المؤسسات، إلا أن التحديات والعقبات والمخططات كانت واضحة وكبيرة، لإرباك المشهد وإحداث عراقيل أمام الرئيس لمنع التحول نحو البناء والاستقرار. وسواء كانت مؤسسة الرئاسة أو الحكومة مسئولة عن العديد من الإخفاقات وضعف الأداء، والتخبط في بعض الفرارات، أم تتحمل المعارضة الجزء الآخر من المسئولية لدعمها موجات العنف وإسباغ الغطاء السياسي لأعمال الفوضى والتخريب. والغريب والعجيب في المشهد السياسي هي التصريحات والأصوات المنادية لاستدعاء العسكر في الحياة السياسية، ونزوله ميدان الصراعات السياسية والعودة به لتولي السلطة، وإدارة شئون البلاد. فتارة تجد البعض ينادي صراحة بإزاحة النظام الحالي عنوة، والبعض يطالبه بالدخول على الخط لردع مؤسسة الرئاسة، وبعضهم يصرح بدخوله حلبة الحوار ولعب دور الطرف القوي الذي يؤثر في القرارات، وبعضهم يدخله للصدام مع الإسلاميين كقوة منظمة أمام قوة تنظيمهم ( فلا يفل الحديد إلا الحديد ). ونسى هؤلاء جميعًا في غمر تصريحاتهم غير المحسوبة وشدة عداوتهم للإخوان المسلمين؛ خطورة هذا الكلام، وأثره على مدعي الديمقراطية ودعاة الليبرالية، وحكماء الدولة المدنية وأرباب التيار المدني. والأخطر من ذلك هو أثره على دولة القانون، والمؤسسات واستقرار البلاد وتحقيق التحول الديمقراطي وتداول السلطة ومشاركة الشعب في صنع القرار الوطني. وكأنهم أرادوا لذاكرة التاريخ أن تنسى الفترة الماضية التي حكم فيها العسكر شئون البلاد ومدى التخبط الذي مازلنا نعيش آثاره حتى الآن، وأن ما نحياه اليوم مشكلات أغلبها من توابع حكمهم وأخطائهم وعدم خبرتهم. وأن خبرتهم بالحياة السياسية هي التي جعلت من ينادون بعودتهم اليوم هم الذين هتفوا يومها بحناجر قوية : ( يسقط حكم العسكر ) . ألا يظن أولئك الذين ينادون بعودة العسكر لحكم البلاد؛ أن العسكر هم الذين حكموا مصر أكثر من ستين سنة، وأن ما نعيشه من فساد وإقصاء واستبداد وديكتاتورية هو حصاد حكمهم ؟!!! وأسأل هؤلاء المنادين بحكم العسكر سؤالًا: هل حَكَمَ العسكر دولة وتقدمت ونمت وتطورت ؟!! أو هل يسمح العسكر بالوقوف أمام مكتب إرشاده، ورسم جرافيت مسيء إليهم أو يقبل بحرق مقراته ومحاولة اغتيال بعض رموزه كما حدث مع الإخوان. ولكن يا سادة: ليس الحل هو استدعاء العسكر لحكم البلاد، لأن العسكر أنفسهم لا يغامرون بسمعتهم مرتين؛ ولا يراهنون على مزاج بعض الثوار وأطفال الشوارع والمرتزقة السياسيين، ويعرفون أيضًا خطورة الإقدام على هذه الخطوة وعواقبها الوخيمة من كل الجوانب. والأخطار الجسيمة داخليًا وخارجيًا، والسيناريوهات المحتملة والفخاخ المدسوسة لهم عند دخولهم حلبة الصراعات السياسية مرة أخرى. ونسى هؤلاء أن الشعب المصري وحده هو صاحب الإرادة وليس هؤلاء، وأن مصير الأمة لا يكون في يد بعض الأوصياء من المعارضة إن جاز التعبير أو بعض الخاسرين في الانتخابات أو بعض الفلول والبلطجية المأجورين والبلاك بلوك وغيرهم. وأهمس في آذان المنادين بعودة حكم العسكر: هل هذه هي الديمقراطية والمدنية وصناديق الانتخابات والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية؟ وهل عودة حكم العسكر يحقق مطالب الثورة وأهداف الثوار ويعيد حق الشهداء؟!! وأؤكد أخيرًا: أن الجيش هو مؤسسة وطنية محايدة، ملك الشعب كله، وعلى مسافة واحدة من كل أفراده، وليس مطلوبًا منه الدخول في مهاترات سياسية. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]