رغم مرور أكثر من أسبوع على إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاستراتيجيته الجديدة في أفغانستان، والتي تمحورت بالأساس حول إرسال 30 ألف جندي إضافي، مع تحديد يوليو 2011 موعدًا للانسحاب، فإن الجدل بشأنها مازال يتصاعد، خاصة فيما يتعلق بتحديد موعد للانسحاب، مع أن أوباما، الخطيب المفوه، حشد كل مهاراته البلاغية ليؤكد للأمريكيين، من جهةٍ، عزمَهُ على إنجاز المهمة في أفغانستان بنجاح، ومن جهة أخرى يطمئنهم على أن وجود القوات الأمريكية هناك ليس مفتوح الأمد. كون الحرب في أفغانستان غير شعبية حيث تُظهر استطلاعات الرأي تراجعًا متزايدًا في تأييد الأمريكيين لها، بسبب غياب أي مؤشرات ملموسة لنصر يلوح في الأفق القريب دفع أوباما للموازنة بين رغبة قادته العسكريين على الأرض في أفغانستان في الدفع بمزيد من القوات لإدراك ما يرونه نصرًا ممكنًا، وبين الرغبة الشعبية في وضع نهاية لإنفاق نحو ملياري دولار شهريًا؛ سعيًا وراء نصر لم تمنحه جبال أفغانستان يومًا لعدو أو غازٍ. سقف للإنجاز هذه الموازنة تجلّت في الدفع ب 30 من أصل 40 ألف جندي طالب بهم قادته العسكريون، لكنه في المقابل وضع سقفًا لإنجاز المهمة بحلول يوليو 2011، إلا أن البعض رأى في تحديد موعد للانسحاب "خطأً استراتيجيًّا"، بغض النظر عن مدى واقعية ذلك الموعد من عدمه، فهو من ناحية يرسل رسائل محبطة لحلفاء واشنطن الأفغان مفادها أن الولاياتالمتحدة –كالعادة- عازمة على التخلي عن أعوانها في منتصف الطريق، أما بالنسبة لطالبان فإن ذلك الموعد يعني أن ما يفصلها عن النصر لا يتجاوز 18 شهرًا، وعليها أن تقضيَها إما في المناورة وتفعيل حرب الكمائن والفر والكر، أو بتصعيد وتيرة الهجمات وتوجيه ضربات نوعية لإجهاض أي آمال أمريكية في إدراك النصر. الانتقادات الموجهة للإستراتيجية ركزت كذلك على عدم واقعية مهلة ال 18 شهرًا؛ فما عجزت القوات الأمريكية عن إنجازه في 98 شهرًا، لن تستطيع أن تنجزه في هذه المهلة القليلة، كما أن مراهنة أوباما ومستشاريه على قدرة حليفه الرئيس الأفغاني حامد كرزاي على بناء حكومة وجيش وقوات أمن قادرة على استلام زمام الأمور من الأمريكيين بحلول يوليو 2011 تبدو مقامرة أكثر من كونها توقعات مدروسة، فالفساد والضعف يضربان في جذور تلك الحكومة وقواتها الأمنية، حتى أن سيطرتها على العاصمة كابول ذاتها باتت محل شك في ظل هجمات طالبان التي ضربت مرارًا أماكن حساسة في قلب المدينة. أما تحالف بعض أركان الحكومة ورجال كرزاي مع أباطرة تجارة المخدرات، وتورط آخرين في صفقات مع مافيا الفساد لنهب المليارات من أموال المساعدات وإعادة الإعمار، فذلك من الأمور التي باتت مألوفة ومتكررة. استنساخ خطة بوش وبالنسبة لكثير من المحللين فإن إستراتيجية أوباما لا تعدو أن تكون استنساخًا لخطة زيادة القوات التي نفذتها إدارة الرئيس جورج بوش بالعراق في نهاية ولايتها الثانية، ورغم أن البعض يعزو لتلك الخطة الفضل في الإمساك بزمام الأوضاع الأمنية على الأرض وتقليص ضربات المقاومة للحد الأدنى، إلا أن ذلك يبدو بعيدًا عن الدقة، فالأخطاء القاتلة التي ارتكبها تنظيم القاعدة، فضلاً عن عشرات الملايين من الدولارات التي رصدها الأمريكيون لتجنيد زعماء العشائر العراقية للقتال بجانبهم، أدت لتشكيل ما عرف ب"الصحوات"، والتي تولى مقاتلوها مهمة التصدي للقاعدة وغيرها من فصائل المقاومة، وكانت محصلة ذلك في النهاية هي إفقاد المقاومة لحاضنتها الاجتماعية من جهة، وتورطها – من جهة أخرى- في معارك داخلية شتَّتت جهودها وأضعفت قواتها. وبالقياس على الواقع الأفغاني، فإن عشرات الملايين التي أنفقها الأمريكيون على وجهاء القبائل وزعماء الحرب المحليين من أجل تشكيل "صحوات أفغانية" لم تفضِ إلى نتائج ملموسة أو ذات قيمة على الأرض، كما أن وتر الصراع المذهبي الذي لعبت عليه واشنطن لأقصى مدى في العراق لا يمثل ثقلاً مهمًا في المعادلة الأفغانية، وفي حين أن العراقيين تعودوا طوال تاريخهم على الخضوع لحكومة مركزية قوية، فإن الأفغان لم يعرفوا تلك الصيغة في تاريخهم قط، ولذا فإن مهمة حكومة كرزاي تبدو بالغة الصعوبة، خاصة أن جُلَّ الأقاليم الأفغانية تفتقد لوجود بنية تحتية ذات قيمة، يمكن للحكومة أن تراهن عليها لكسب تأييد المواطنين، وبالتالي إحداث شرخ في الحاضنة الاجتماعية، التي يتحرك في ظلها وتحت حمايتها مقاتلو طالبان. "كانتونات أمنية" وتبرز في هذا الإطار التصريحات الأخيرة لوزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس، والتي أشار فيها إلى أن تسليم السلطات الأمنية لن يكون بالضرورة إلى قوات الأمن الأفغانية، بل يمكن أن يتم لزعماء قبليين ومحليين، إذا ما نجحوا في طرد مقاتلي القاعدة من مناطقهم، وهو ما يعني أن الأمريكيين في طريقهم لتكوين "كانتونات أمنية" محلية لمقاتلة طالبان وحفظ الأمن في محيطها الضيق، كبديل عن المهمة الصعبة والمتمثلة في تكوين جيش وشرطة وطنيين قويين. ومن اللافت أن الجنرال ديفيد بتريوس واضع خطة تعزيز القوات الأمريكية في العراق هو من يتولى حاليًا قيادة القيادة الوسطي الأمريكية، المسئولة عن إدارة الحرب في العراق وأفغانستان، فيما يشغل الجنرال ستانلي مكريستال قائد القوات الخاصة الأمريكية بالعراق، التي تحملت العبء الأكبر من تنفيذ الخطة قيادة القوات الأمريكية حاليًا في أفغانستان، كما أن روبرت جيتس، الداعم الأكبر للخطة، مازال في منصبه حتى الآن، ولذا فإن التقديرات بكون إدارة أوباما تحاول استنساخ ما جرى في العراق لا تأتي من فراغ. تحالف الوهم وعلى الرغم من أن إدارة أوباما سعت بقوة للترويج لتلك الإستراتيجية، بوصفها جزءًا من تحرك دولي واسع، بدعوى أن الفشل في أفغانستان سيجرُّ تبعات لن تقتصر فقط على الولاياتالمتحدة، وأن هزيمة طالبان والقاعدة ليست مشروعًا أمريكيًّا خاصًا، لكنه هدف يلتقي حوله تحالف دولي واسع، يشمل في حده الأدنى دول حلف الناتو.. على الرغم من كل ذلك فإن الوقائع على الأرض تشير إلى أن دعم الكثيرين لا يتجاوز الكلمات الرنانة، وأنهم ليسوا على استعداد للانخراط الفعلي في إنجاز المهمة، فدول مثل ألمانيا وتركيا وفرنسا تضع قيودًا صارمة على تحركات قواتها في أفغانستان، وتمنعها من الاشتراك الفعلي في القتال ضد طالبان، ليقتصر دورها على المهام اللوجيستية، أو تقصر انتشارها على المناطق الأكثر هدءوًا في كابول والشمال، بعيدًا عن الجبهات المشتعلة في الجنوب والشرق. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد رأت في التزام دول حلف الناتو ال25، بإرسال 7 آلاف جندي إضافي لأفغانستان خلال عام 2010، دليلاً على دعم الحلف لإستراتيجيتها، إلا أن التدقيق في التفاصيل ربما يحمل مؤشرات أخرى، فباستثناء ألف جندي إيطالي وعدة مئات بريطانيين، فإن باقي هذه القوات يأتي في صورة وحدات صغيرة من دول ذات قدرات عسكرية محدودة، أما الدول الرئيسَة في الحلف مثل ألمانيا وفرنسا وتركيا وكندا وهولندا، فقد رفضت الالتزام بإرسال أي قوات جديدة، بل إن عام 2010 سوف يشهد انسحاب 2800 جندي كندي، إضافة إلى الجزء الأكثر من 2100 جندي هولندي، وهذه القوات كانت تضطلع بمهام قتالية في إقليمي "قندهار و"ارزكان" الجنوبيين، حيث المعاقل الحصينة لمقاتلي طالبان. هدف المهمة وبالتالي فإن إرسال القوات الضعيفة والمشتتة لأفغانستان ضمن إستراتيجية أوباما سوف يتزامن معه خروج أعداد مقاربة، لكنها أكثر كفاءة وقدرة قتالية، وهو ما يعني أن مهمة القتال سوف تقتصر بشكل عملي على الولاياتالمتحدة، التي ستبلغ قواتها مع اكتمال وصول الجنود الإضافيين نحوَ مائة ألف جندي، إضافة إلى بريطانيا التي تنشر نحو 10 آلاف جندي، يشكلون نحو ربع القوات التابعة للناتو، والبالغة 40 ألف جندي، ولعل أبرز مؤشر على ذلك هو أن قتلى القوات الأمريكية والبريطانية في أفغانستان خلال عام 2009 فقط يفوق ما خسرته باقي قوات الحلفاء خلال ثماني سنوات. وكمحصلة لهذا الغموض المحيط بالإستراتيجية وعدم اقتناع الكثيرين بجدواها، بدأت دوائر أمريكية تتساءل عما إذا كان هدف أوباما هو تحقيق النصر أم تأمين خروج القوات الأمريكية من أفغانستان؟ بغض النظر عن تحقيق النصر من عدمه، بينما رأى فريق آخر أن القوات الإضافية ستركز بشكل أساسي على تحسين الأوضاع على الأرض بما يمكّن الأمريكيين من إبرام اتفاق مع طالبان بأفضل شروط ممكنة، خاصة أن المرحلة المقبلة يُتوقع أن تشهد بَدء التفاوض على اتفاقية أمنية تنظم الوجود الأمريكي في أفغانستان على المدى الطويل، وذلك على غرار الاتفاقية التي وقّعتها إدارة بوش مع حكومة المالكي في العراق. وهنا يدور الحديث عن رغبة أمريكية في الحصول على قواعد عسكرية دائمة، في محاولة لاستغلال الموقع الإستراتيجي الفريد لأفغانستان، حيث تمتلك حدودًا مع كل من الصين والهند وباكستان وإيران؛ وهي دول يهم واشنطن أن تمتلك قوات بالقرب منها قادرة على التدخل في حالة الضرورة، وتبقى قدرة إدارة أوباما على إقامة تلك القواعد رهنًا بنتيجة القتال على الأرض خلال الشهور ال18 المقبلة، فإذا ما نجحت طالبان في الصمود والمحافظة على نفوذها الحالي، فإنه من الصعب إقامة تلك القواعد، أما إذا نجح الأمريكيون في ترسيخ وجودهم وتوجيه ضربات مؤثرة لطالبان، فإن حكومة كرزاي لن تكون في وارد معارضة أي طلب أمريكي. المصدر: الإسلام اليوم