هناك حقائق في الحالة المصرية لا يخطؤها الأعمي. أول هذه الحقائق: أن الحزب الوطني استنفد مرات الرسوب، وأنه لم يعد بوسعه أن يغري أحداً بالبقاء مهما أضفي علي وعوده من المصداقية المزيفة والأكاذيب المعهودة. ولذلك فإن تيار الاستقلال الوطني عن هذا الاحتلال الوطني انطلق كالعاصفة، وأن ما يقوم به الحزب الوطني هو مكابرة ضد حركة التاريخ، فقد قرر الشعب المصري أن يقرر مصيره بنفسه وأن ينهي الوصاية التي فرضها الحزب، ولكنه تصرف ضد آمال هذا الشعب. الحقيقة الثانية: هي أن الديموقراطية تتطلب الاحتكام إلي صناديق الانتخاب في عملية نزيهة وشفافة يندفع الجميع إليها في منافسة شريفة، وأن يقبل بكل رضا ما تسفر عنه هذه العملية. ولا نضيف جديداً إذا قلنا أن الشعب المصري قد شبع غشاً وتزويراً، وأن حالته تتدهور كل ساعة، وأن هذا التزوير لإرادته تاريخياً هو السند الوحيد والشرعية الجريحة لكل نظم الحكم في مصر، علي الأقل طوال القرن العشرين وحتي الآن. ولكن الجديد هو تجليات العولمة التي سبق أن نبهت منذ أكثر من عقد إلي أنها سوف توقظ الشعوب علي عورات حكامه،ا فإما أن تكتسح هذه الشعوب نظمها، وإما أن ترتد هذه النظم إلي العقل البناء والحكمة المنتجة وليس إلي التحايل والخداع وبيع الوهم كما حدث حتي الآن. الحقيقة الثالثة: هي أن إقامة نظام سياسي محترم قادر علي وضع مصر حيث يريد المصريون في الداخل والخارج، وأن يعيد مصر من غربتها إلي الوعي الحر للمصريين، يبدأ بانتخاب حر لبرلمان وطني يراقب الحكومة ويسائلها ويدفعها إلي العمل وفق برنامج البناء والتطوير، يواكبه قضاء وطني نزيهه، يرد الحق لأصحابه ويفض الاشتباك بين السلطات. ولعل القاريء يدرك معني هذه الكلمات وأهميتها عندما يتصفح أحوال مصر الراهنة، وأهمها أن الحكومة نفسها هي التي تنتهك القانون، وهي التي تفسد القضاء، وهي التي تحتقر أحكام القضاء، وأمامه في قضية الغاز الملغزة الكثير من الدروس والعبر بعد أن ظنت هذه الحكومة أن هذا الشعب قاصر عقلياً وسياسياً، وأنها الحكومة الذكية التي تفهم ما لا يقال والشعب يراقبها بكل العجب والحسرة وهي تدفع للمواطن الإسرائيلي الدعم للغاز والكهرباء، بينما تتربص بالمواطن المصري في أمنه وعيشه ومصادر رزقه بالطواريء والضرائب التي لم تعرفها مصر طوال تاريخها. الحقيقة الرابعة: هي أن ظهور الدكتور البرادعي علي مسرح الأحداث المصرية من الخارج وتشخيصه للحالة المصرية ووضع ثقله الدولي خلف ما تطالب به الحركة الوطنية لا شك أمر محمود، خاصة المطالبة بتعديل الدستور حتي لو كانت هذه المطالبة في ظل هذه الظروف غير منتجة، ولذلك فيجب أن نميز بين العمل معاً من أجل انتخابات حرة أياً كان الفائز، وبين الترشيح لمنصب الرئاسة، لأن هذا الترشيح لا يكفي فيه الالتحام بالحركة الوطنية وإنما يجب إعلان برنامج المرشح، لأن إزالة هذا النظام قد لا تكون بالضرورة لصالح مصر وإنما لصالح أجندة أجنبية، فيدفع الشعب المصري مرة أخري ثمن تحمسه للذين يداعبون أحلامه ويتوسلون إلي أشواقه في الحرية والاستقلال، ولذلك فإن موقف الدكتور البرادعي لدفع الآمال الوطنية للخلاص من الحالة الراهنة شيء، والموافقة علي أن يكون رئيساً شيء آخر. الحقيقة الخامسة: هي أننا يجب أن نعمل وفق ما هو ممكن مع المطالبة بما هو مستحيل، لأن هذه المطالبة توسع مسافات الممكن، وأقترح أن تطالب الحركة الوطنية بالرقابة الدولية علي الانتخابات ومساندة مطلب الأممالمتحدة بإنهاء حالة الطواريء، وتنظيم اللجان اللازمة من مختلف الأعمار لإيقاظ الشعب المصري لكي يقبل علي الانتخابات التشريعية، وأن يختار الأفضل من المرشحين بحرية، وأن يتوقف عن تلقي الرشاوي التي تدخل بعض الجيوب ولكنها تتسبب في خراب الوطن، وعلي الحركة الوطنية أن تحمي صناديق الانتخاب وحق المواطن في الوصول إليها. كذلك يجب أن تركز الحركة الوطنية علي شرفاء الحزب الوطني وشرفاء القيادات الأمنية، لأن القضية هي تقرير مصير هذا الوطن، إما الاستمرار في التدهور، وإما إعادة الاعتبار إلي مصر التي عرفناها، ولكن ذلك كله لابد أن يتم عبر تصويت حر وصندوق شفاف، ونتائج أمينة وترحيب بأي نتائج تأتي بها هذه العملية الديموقراطية.