أتحدث هنا عن أستاذي محمد يوسف عدس ليس لأنه أخي الأكبر وإنما لأنه فعلًا يستحق الدراسة والتقدير، وليس حديثي عنه حديثًا ذاتيًا لا يهم غيري وإنما يتناول تاريخ مصر السياسي والفكري طوال ستين عامًا من ديكتاتورية العسكر منذ عبد الناصر حتى المخلوع مبارك، وقد بدأت هذه الرحلة لكاتبنا في قرية بهوت بمحافظة الدقهلية حيث أسس بها وهو في الثامنة عشر شعبة الإخوان المسلمين وكان يجمع فيها مجموعة من الشبان الأطهار الذين يهتمون بتعاليم حسن البنا التي هي تعاليم الإسلام من العناية ببناء الفرد روحيًا وجسديًا فيهتمون بإقامة الصلاة جماعة، والتآخي وحفظ القرآن والأدعية في عاطفية صوفية كما يهتمون بالرياضة البدنية والمعسكرات الكشفية والقراءة والثقافة في اجتماعاتهم، ولا أنسى صحبته لي في الفجر لإيقاظ الإخوان للصلاة وهو يمسك بيدي في ليالي الشتاء وقد أيد كاتبنا آنذاك أول ثورة للفلاحين ضد الإقطاع في بهوت عام 1951م، حيث أحرقوا قصر الباشا البدراوي وبعدها كان انقلاب الجيش ضد الملكية والإقطاع عام 1952م، وكان كاتبنا الكبير آنذاك تلميذًا في مدرسة الملك الكامل بحي الحسينية بينما كنت تلميذًا بالسنة الأولى الابتدائية بمدرسة الملك الصالح بشارع الحوار وكان يصحبني معه إلي مقر الإخوان المسلمين بشارع السكة القديمة، حيث كان يشجعني على الخطابة به بعد أن نستمع إلى حديث الدكتور الرقيق خميس حميدة الذي أعدمه عبد الناصر مع عبد القادر عودة حين قبض على الإخوان المسلمين سنة 1954م بعد حادث المنشية المختلق، وبعدها ألغى عبد الناصر الأحزاب وقضى على الديمقراطية وأقام في مصر ديكتاتورية عسكرية ظلت قائمة ستين عامًا مما أصاب المصريين بالرعب، وكنا قد انتقلنا إلى القاهرة ليدرس أخي الفلسفة في جامعة القاهرة حيث كانت مظاهرات الطلبة التي كان يواجهها عبد الناصر بالرصاص، وفي القاهرة استمر أخي في تربيتي فعلًا لا مجازًا فكان ولا يزال بالنسبة لي الأب الحنون رغم صغر سنة إلا أنه يتميز بالجدية وبالإحساس بالمسئولية، وكان ولا يزال مثلًا أعلى لي في خلقه ونبله وكرمه، وقد تربيت ثقافيًا في مكتبته بقريتنا حيث كان لنا بيت كبير وكان والدنا من ذوي الأملاك الزراعية وقد أرسلنا بذكائه إلى القاهرة للتعليم وهناك كانت غارات حرب 1956م وبعدها استمر عبد الناصر في التضييق على الشعب اقتصاديًا باشتراكيته وسياسيًا باضطهاده للإخوان المسلمين حتى إنه قبض عليهم مرة ثانية عام 1964م، حيث أُعدم الشهيد سيد قطب ثم كانت النكسة وسقوط عبد الناصر وقوميته عام 1967م وانتاب اليأس شبابنا ومنهم أخي الذي آثر المنفى على البقاء في مصر المنهارة آنذاك فهاجر إلى أستراليا حيث فقد أحد ولديه ثم عمل مستشارًا بهيئة اليونسكو في دولة قطر، ثم عاد إلى مصر وظل يسافر فترات طويلة إلي لندن ليصاحب ابنه الذي عمل أستاذًا بالجامعة وهناك فقد كاتبنا زوجته الكريمة، وهناك عانى ابنه من الاضطهاد لميوله الإسلامية حتى اضطروه للعودة لمصر وذلك في إبان حكم العسكر بعد ثورة 2011م، حيث رأى الفوضى في البلد فآثر الرحيل إلي أستراليا للعمل بها وسافر معه أخي، وكان بعد عودته من قطر قد بدأ الكتابة فبدأ بداية عملاقة حين ترجم كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" للمفكر الإسلامي على عزت بيجوفيتش زعيم البوسنة والهرسك في كفاحها ضد الصرب الصليبيين، وترجم له أيضًا كتاب "البيان الإسلامي" وترجم كتاب "الدولة اليهودية" تأليف هرتزل والذي سمعنا عنه جميعًا ولكنّ أحدًا لم يقرأه حتى عبد الناصر لم يقرأ سوى ملخص له، لأن أول من ترجمه كاملًا هو المفكر محمد يوسف عدس الذي راح يدافع عن قضايا المسلمين المعاصرين في كتبه عن كوسوفا وعن الشيشان وقدم لنا أيضًا كتابًا عن المفكر الإسلامي محمد أسد وكتابًا عن الدولة العثمانية وأخيرًا كتابًا عن الحرب الميكروبية أو الأطباء القتلة في أمريكا التي فضحها كاتبنا وفضح الرأسمالية المتوحشة في مقالاته بمجلة الهلال والمختار الإسلامي والمنار الجديد وجريدة المصريون، وقد أثر كاتبنا في إنتاجي بتوجيهه لي لنشر ملخصات لأهم الكتب الإسلامية ونشره لمسرحياتي الإسلامية على نفقته الخاصة لكي يقيم في مصر تيارًا إسلاميًا بدلًا من المسرحيات المترجمة والهابطة.. كانت هذه نبذه سريعة عن حياة وكتابات وآثار المفكر الإسلامي محمد يوسف عدس.