لا شك أن الحوار يعتبر قيمة عظيمة في الحياة الإنسانية، وأحد الأسسالهامة التي تقرب بين الأفراد والجماعات في قضاياهم المتعددة من خلالالحوار، وهو الطريق الأمثل لتحقيق التجانس والتقارب وإيجاد المناخالملائم لإبعاد الخلاف والانقسام في الآراء وتضادها،وقد قال السيد المسيح عليه السلام (ماذا يفيد الإنسان لو ربح العلم كله وخسر نفسه ). ولذلك فإن الحوار الذاتي، هو الطريق الإيجابي لتحقيق الوئام والتفاهم وإبعاد شبح الاختلافات السلبية التي تكرس الصدام ، والتفكك ، وبالعكس ، فإن التحاور والتشاور يرفع الكثير من الأحكام المسبقة ، ويرفع " الغموض عن العديد من المواقف والآراء التي ربما نسمع أو نتوقع أو نعتقد أنها مغايرة أو مناقضة لبعضنا البعض إلى حد التضاد .. إذ بالحوار تتفتح أذهاننا ،ونملك إحاطة أشمل وأوسع في الرأي أو الموقف الذي نريده . من هنا فإن الحوار الذاتي داخل الأمة الواحدة يمثل خطوة هامة في المرحلةالراهنة ، ولن تستطيع الأمة أن تحقق نجاحات في طرائق وأساليب ومنطلقاتالحوار مع الآخر المختلف إلا إذا أرست تقاليد الحوار الداخلي [ الذاتي ]بين تياراتها ونخبها المختلفة ، والقبول بالتعدد والاختلاف والمغايرة فيالأفكار والاجتهادات دون إقصاء أو استبعاد أو نفي ، فإذا لم نستطع أن نقيم حواراً بيننا ونقبل به ، فإننا لن نطمح في حوار مثمر مع الآخرالمختلف . وهذا الحوار الداخلي الملح والضروري في مسار الأمة لن يتحقق بصورةعشوائية أو عاطفية ، بل إن هذا الحوار يحتاج له أن ( يبرمج ) ويؤسس علىمنطلقات صريحة وواضحة لحل القضايا التي تقف في وجه وحدة الأمة وتآلفهاواتفاقها في القضايا الكبرى ومن هذه المنطلقات كما يعددها الدكتورعبد العزيز بن عثمان التويجري الرصد الشامل لعوامل " تفاقم الأوضاع الاجتماعية واحتوائها ، والعمل على تدعيم سبل الاستقرار والتنمية ، وحتىتصبح الحوارات الوطنية في العالم العربي الإسلامي بمثابة نقطة تحولوانطلاق إلى آفاق جديدة في واقعنا السياسي والاجتماعي وفي الميادين كافة ، لا بد أن نحرص على الإدارة العلمية والدقيقة لهذه الحوارات ، وفياتجاهنا نحو هذه الغاية لا بد أن نفرّق أولاً بين مفهومي " الحوار " و "عمليات التفاوض الجمعي ، وذلك تجنباً للفوضى والوقوع في المحظور ، والسيرفي الاتجاه الخطأ . وهذا الضرب من الحوار ، الذي يمكن أن نصطلح عليه " بالحوار الداخلي " ،هو خطوة أولى نحو الحوار مع الخارج ، لأنه يقوي النسيج الوطني في كل بلدمن بلدان العالم العربي والإسلامي ، من جهة ، ويكسب المجتمع مناعة أصبحتاليوم ضرورية للتعامل مع العالم المحيط بنا ، من جهة ثانية . لأننا لايمكن أن نفلح في الحوار مع العالم ، ما لم نفلح في الحوار مع أنفسنا . فالحوار الشامل والمتعدد لوجهات النظر المختلفة داخل الأمة الواحدة هوالسبيل الأسمى والأرقى لضبط الاختلاف المذموم اختلاف التضاد وتفعيلقيم التعاون والتآلف والتكاتف . وبدونه تدخل ساحاتنا العربية الإسلاميةفي أتون " النزاعات ودهاليز الفرقة والتفتت . والقمع والقهر لا ينهي فرقةوتجزئة ، و إنما يزيدهما تأججاً واشتعالاً وحرارة . لذلك كله فإننا مع الحوار الداخلي بكل أشكاله ومستوياته . وينبغي أن ندرك جميعاً أن البديلالمتوفر عن الحوار في فضائنا العربي والإسلامي ، هو الحروب الأهليةوعمليات الإقصاء والتهميش والتمييز والتعصب الأعمى . ولنا في الدولالعربية والإسلامية التي ابتليت بالحروب الداخلية خير مثال، وكلنا ندركالمصير الذي وقعت فيه وما تزال . فالأزمة استفحلت في هذه الدول حينماأغلق باب الحوار ، وغيبت قيم التسامح والتعددية والديمقراطية والمشاركة وحقوق الإنسان . وكان البديل الذي اشترك الجميع في صنعه وخلقه ، هو الحربالداخلية العمياء التي أضرت الجميع وجعلت مستقبل هذه الدول على كف عفريت . حتى أن الذين يعتقدون أن الاختلافات المذهبية حول بعض القضايا الفرعية أوغيرها المتعلقة بالنص القرآني وتفسيره ، فإن الإمام أبو حامد الغزاليورحمه الله كما يورده الكاتب/ علي أومليل يرى أن " اختلاف الناس حولالنص القرآني لا يعني بالضرورة أن الاختلاف كامن في النص نفسه . لو التزمالقوم على الأقل ، بهذا التمييز لأقرّوا بأن الاختلاف بينهم طبيعيولاعتبر كل طرف أن اختلاف خصمه إنما هو اختلاف معه هو وليس خلافاً معالنص". فالاختلاف من هذا المنطلق حالة طبيعية لاختلاف الأفهام والعقلياتلمشروعية الاجتهاد ومن المستحيل أيضاً القبول بالاجتهاد دون القبولبآثاره التي من جملتها اختلاف نظر المجتهدين . ولكننا في الوقت الذينعتبر فيه أن الاختلاف حالة طبيعية مرتبطة بالوجود الإنساني ، نرفضالاختلاف المطلق أو ما يصطلح عليه ب ( الاختلاف من أجل الاختلاف ) ، لأنمعنى هذا الاختلاف هو التشتيت الدائم والمستمر للآراء والأفكار ، ويبقىكل منها منغلقاً على ذاته ، رافضاً للآخر ، كل منها يشكل عصبية لا تقبلالتعايش والحوار ، فهو صراع عصبوي حتى لو تجلبب بجلباب الاختلاف .فالاختلاف في حدوده الطبيعية ليس مرضاً يجب التخلص منه والقضاء عليه ،بل هو محرك الأمم نحو الأفضل ، ومصدر ديناميتها ، وهو يقود بالإدارة الحسنة إلى المزيد من النضج والوعي والتكامل . ولذلك فإن الحوار الداخلي أصبح فريضة وضرورة لإبعاد شبح الخلافاتوالمشاحنات وربما المصادمات التي تهدد الأمة في وحدتها وتماسكها ، ومنالأهداف التي يتعين على الأمة تحقيقها " التقريب بين وجهات النظرالمتباينة حيال القضايا ذات الاهتمام المشترك التي ترتبط بمصير الأمة ،والتنسيق بين السياسات والمواقف التي يتخذها صانعو القرار في شتى حقولالاختصاصات ومستويات الصلاحيات ، وإذا كانت المبادرات العلمية التي تعنىبالتقريب بين المذاهب الفقهية الإسلامية ، قد أخذت في الانتعاش في هذهالمرحلة ، فإن هذا ليس إلا ضرباً من الحوار بين المسلمين ، على المستوى الفقهي والعلمي . ولذلك ينبغي أن تتخذ المبادرات على مستويات أخرى ،للتقريب بين السياسات والمواقف ووجهات النظر والاختيارات والاجتهادات فيالمسائل ذات الصلة الوثيقة بحياة المسلمين وبحاضر العالم الإسلاميوبمستقبله ، على أن يشارك في ذلك ، ممثلو الحكومات والمجالس المنتخبةوالهيئات التمثيلية والمنظمات والاتحادات والجمعيات ذات الاهتمامات العامة ، بحيث تتسع دوائر الالتقاء فيما بين النخب في المجتمعاتالإسلامية للتدارس وللتحاور وللتباحث ولمناقشة القضايا المطروحة بروحالأخوة وفي إطار الاحترام المتبادل والحرص على المصالح العليا للأمة في المقام الأولوفي هذه الأجواء يصبح للحوار بين المسلمين معنى عميق في الواقع العربيوالإسلامي ، لا على المستوى النظري والفكري والثقافي فحسب ، ولكن علىالمستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني ،بالمفهوم الواسع للأمنالسابغ الشامل المتبادل الذي يحمي الذات ، والهوية ، والخصوصيات ،والمصالح ، والمنافع ، والسيادة التي هي حق طبيعي لكل مجموعة بشرية ارتضت أن تعيش في إطار نظام اختارت سياساته ، وأقامت قواعده ، ورسمت له أهدافهوغاياته . وبهذه الأسس يمكن أن نتلمس حواراً يقوم على معطيات صحيحة ، ويحقق نجاحاًمأمولاً ، إذا ما توافق الحوار الداخلي ، أو الوطني ، أو مع الذات ، حولمشروعية التعدد وقبول الاختلاف والتعايش مع الأفكار والمنطلقاتالاجتهادية ، بروح التسامح والتآخي ووفق قاعدة صاحب المنار العلامة محمدرشيد رضا ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنافيه. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]