تصورت أنه بمجرد نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير في إسقاط رأس النظام السابق حسني مبارك وإجباره على التنحي عن الحكم أنه سيجري تحول كبير على منظومة القيم التي تحكم العلاقات البينية بين أفراد المجتمع المصري ومن ثم سيكون لروح الثورة ومبادئها فضلًا عن حاملي شعلتها دورًا أكثر فاعلية في هذا المجتمع حتى يتحقق التغيير المنشود فلا يكون مجرد واجهة تحمل شعارات أبعد ما تكون عن واقع الحياة في هذا المجتمع. وظننت – وبعض الظن إثم – أن المصريين استوعبوا جيدًا أخطاء ثورة يوليو عام 52 التي اعتقدت أن التغيير ينحصر في استبدال شعارات بشعارات دون أن تلتفت إلى أن الثورة الحقيقية هي إحداث زلزلة ثقافية واجتماعية تعيد بناء المجتمع وفق ما تطمح إليه الثورة التي هي انعكاس لرغبة الجماهير ولذلك لم تمر سنوات قليلة حتى تم إجهاضها وبقت الثورة مجرد صفحات قليلة من تاريخ يبدو أنه - على الرغم من قربه - لم يحظ برضا الجميع. إن الأحداث اليومية تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن النجاح الحقيقي لثورة يناير يتمثل في السعي من أجل إبقاء الإيمان بها والتمسك بمبادئها في مواجهة ذلك المد العاتي الذي يدفع الجماهير للكفر بما أتت من أجله وإنكار الأسباب التي جعلت الملايين ينتفضون في الساحات والمياديين مرددين في صوت واحد "الشعب يريد إسقاط النظام" وذلك في ظني لن يتأتى إلا بأمرين: الأول: أن تنجح الثورة في تحقيق الحد الأدنى من مطالب الناس وطموحاتها (عيش – حرية – عدالة اجتماعية) فذلك كفيل بأن يخرس الألسنة ويفشل المحاولات المستميتة التي تعمل ليل نهار بلا ملل ولا كلل حتى تشوه الصورة وتقتل الحلم وهو ما يستلزم بالضرورة بذل المزيد والمزيد من الجهد من أجل ضبط الشارع المصري أمنيًا وأخلاقيًا وتفعيل دور القانون مهما كانت التضحيات وإعادة دور مؤسسات الدولة وتطهيرها من الفاسدين والمخربين وفوق هذا وذاك حسن توظيف النشطاء والفاعلين السياسيين المخلصين للاصطفاف في فاعليات رقابية وخدمية تعوض تخاذل المتخاذلين وتحارب مخططات الذين يريدون الانقضاض على الثورة وتقدم نموذجًا لثوريين لا ينتظرون من ورائها جزاءً ولا شكورًا. الثاني: أن تتسع قاعدة المؤمنين بالثورة الذين هم الحصن الآمن ضد إفشالها وذلك على مستويين: أحدهما عام يتعلق بالرد الدائم والمستمر على شبهات الإعلام والإعلاميين الذين بدا أنهم معول الهدم الرئيس للثورة من حيث يقصدون أو لا يقصدون متذرعين بحرية الرأي والتعبير. وثانيهما قاعدي يرتبط بجماهير القرى والنجوع الذين تنحصر علاقة أغلبيتهم بالثورة عبر ما يشاهدونه في الفضائيات أو ما يقرأونه في الصحف غير أن أهم ما يحدد مواقفهم هو قدر إيمان كبرائهم وزعمائهم بالثورة فضلًا عن حراك أهل الثقة منهم سواء على مستوى التوعية أو على مستوى الخدمات والأعمال الخيرية وهو ما يستدعي ضرورة تنشيط هذه الجوانب التي بدا حتى الآن مدى التقصير الشديد بشأنها فعلى مستوى التوعية تراجع وبكل أسف العمل الدعوي للدعاة وللفاعلين الإسلاميين على الرغم من أن أمر حركتهم أصبح ميسورًا لأقصى درجة في حين أصبح جليًا أمام الكثيرين أن العمل الخدمي للأحزاب الإسلامية – التي تتواجد فعلًا وواقعًا في القرى في غيبة بقية الأحزاب - أصبح في غالبه مرتهنًا بالانتخابات والاستفتاءات وكل ما هو متعلق بالسياسة فحسب. واعتقادي أن العمل على استمرار فاعلية المد الثوري على مستوى القاعدة أهم وأخطر من العمل على مستوى المدينة فمعايير ترتيب الصفوف بين أمامية وخلفية في طابور القيادة الشعبية أصعب بمراحل منها في القاهرة إذ هي ترتبط أساسًا في القاهرة وعواصم المحافظات بالمؤهلات العلمية والنشاط الحركي والتنظيمي بينما هي في الريف ما زالت مرتبطة بالمقدار العددي للعائلات وانتماء الأفراد لبيوتات دون بيوتات لها من التاريخ ما لها وهي مسائل يحتاج تغييرها لسنوات وسنوات من العمل الشاق يأتي على رأسها تقديم الدعم المادي والمعنوي الكاملين للعناصر الثورية الحقيقية حتى يمكنها القفز فوق العقبات التي تعترضها في صراعها على تصدر المشهد وتغيير الأوضاع النمطية التي ووفق استقراء تاريخ الحياة السياسية في الريف تسعى باستمرار إلى استبدال أثوابها وفق التغيرات الطارئة لكنها غالبًا ما تبقى محملة بذات القيم الطبقية والاستعلائية التي يجعلها في حالة تربص مستمر لحدوث أية ثغرة ثورية للانقضاض على مظاهر التغيير والعودة من جديد لما كانت عليه الأوضاع قبل الثورة التي هي في اعتقاد هؤلاء مجرد هوجة وستنتهي.