يقول محمد يونس: قبل خمسة وعشرين عامًا كنت أدرس الاقتصاد في جامعة بنجلاديش والبلاد تعاني من المجاعة، وكنت أدرس النظريات الاقتصادية المحترمة في الصف بحماس متسلحًا بشهادة الدكتوراه التي حصلت عليها من الولاياتالمتحدة، ولكن عندما أغادر الصف كنت أرى حولي هياكل عظمية لأناس ينتظرون الموت فكنت أشعر بالأسى. لذلك حاولت أن أكتشف كيف يعيش الناس في القرية المجاورة للجامعة وأردت أن أكتشف إن كان باستطاعتي كإنسان أن أفعل لهم شيئًا. فقابلت امرأة كانت تصنع كراسي من الخيزران، وبعد نقاش طويل اكتشفت أنها تكسب سنتين أمريكيين كل يوم، في البداية لم أستطع أن أصدق أن هناك من يصنع كراسي بهذا الجمال ثم لا يحصل إلا على قدر ضئيل من الربح والسبب أن المرأة لا تملك المال لشراء الخيزران لذلك تقترضه من تاجر يشترط عليها أن تبيع الكراسي له بالسعر الذي يحدده. فسألتها: وكم يكلف شراء الخيزران؟ أجابت: " 20سنتًا". قلت لنفسي: هل من المعقول أن يعاني الناس بسبب 20 سنتًا وألا يكون بالاستطاعة مساعدتهم؟ ففكرت أن أكتب قائمة بالأشخاص الذين يحتاجون إلى هذا القدر من المال، وفي اليوم التالي اصطحبت تلميذًا لي وتجولنا لعدة أيام في القرية المجاورة، فعدنا بقائمة تتضمن 42 اسمًا وحسبت المبلغ الذي يحتاجون إليه ففوجئت بأكبر صدمة في حياتي، لقد كان المبلغ لا يتجاوز 27 دولارًا لاثنين وأربعين من العمال المجدين الماهرين. ولكي أمحو هذا العار أعطيت تلميذي المبلغ من جيبي وقلت له: "أعطه للأشخاص الذين قابلناهم، وأخبرهم أنه سُلفةٌ يُعيدونها عندما يتمكنون من ذلك، وبالتالي فإنهم يستطيعون الآن أن يبيعوا منتجاتهم في المكان الذي يحصلون منه على سعر جيد." وبعدما أخذوا المال شعروا بابتهاج وبدؤوا عملهم بروح جديدة وباعوا إنتاجهم بسعر أفضل، وأرجعوا إليّ الدين الذي أعطيتهم. دفعتني رؤية هذا الابتهاج في عيونهم ونجاحهم إلى التفكير فيما يمكنني أن أفعل لهم؟ فذهبت لفرع مصرف يقع في حرم الجامعة واقترحت على المدير أن يقرض البنك المال للفقراء الذين قابلتهم في القرية. فذهل وقال: «هل أنت مجنون؟ هذا مستحيل، كيف يمكننا أن نقرض المال للفقراء؟ قلت: «دعنا نحاول على الأقل» قال: "لا؛ إن قوانيننا لا تسمح بذلك، إنهم لا يستطيعون تأمين ضمان للقرض." وأخيرًا وبعد محاولات معه قلت: أنا سأكفل القرض وهكذا يعطونني المال وأعطيه بدوري للفقراء. وهكذا كانت البداية؛ لقد حذروني عدة مرات أن الفقراء الذين سيأخذون المال لن يعيدوه أبدًا. قلت لهم: «سوف أجرب»، وكانت المفاجأة أنهم أعادوا كل بنس استدانوه، فشعرت بالإثارة وجئت إلى المدير وقلت له: «أنظر لقد أعادوا المال ولم تحدث أي مشكلة». ولكنه أجابني: «إنهم يخدعونك»، فأعطيتهم مزيدًا من المال وأعادوه كاملًا، وعندما أخبرته بذلك قال: «حسنًا ربما نجح ذلك في قرية واحدة، ولكنه لن ينجح في قريتين»، ومباشرة جربته في قريتين فنجح الأمر. لقد أصبح الأمر نوعًا من المباراة بيني وبينهم، فخرجت بنتائج لا يستطيعون إنكارها؛ لأن المال الذي كنت أعطيه للفقراء كان مال البنك، ومشكلتهم أنهم دربوا على الاعتقاد بأن الفقراء لا يمكن الوثوق بهم. ولحسن الحظ فأنا لم أكن مدربًا بهذه الطريقة من التفكير لذلك استطعت أن أصدق الأمور التي كنت أراها عندما كانت تُظهر نفسها لي. وأخيرًا فكرت: لماذا أحاول إقناعهم؟ لماذا لا ننشئ مصرفًا مستقلًا؟ أثارتني هذه الفكرة وكتبت خطة المشروع، وذهبت إلى الحكومة لأحصل على إذن بإقامة المصرف. وبعدما استغرق الأمر عامين استطعت إقناع الحكومة فأصبحنا مصرفًا رسميًا ومستقلًا في الثاني من أكتوبر عام 1983، لقد كان الأمر مثيرًا بالنسبة إلينا جميعا أن أصبح لدينا مصرفنا الخاص. ومن المهم أن تعرف إن «مصرف غرامين» اليوم يعمل في أكثر من 46 ألف قرية في بنجلاديش من خلال 2468 فرعًا، ولديه 24703 ألف موظف وقام بإقراض أكثر من 4.5بليون دولار على شكل قروض صغيرة، حتى إنه يقرض المتسولين لمساعدتهم عن التوقف عن التسول، فإذا فكرنا في التأثير الهائل الذي يتركه هذا المشروع في حياة الناس فسنجد أنه غير حياة فقراء %96 منهم من النساء للأفضل. إن الحلم الذي يمتلك شغاف قلب صاحبه فيجتهد ويضحي في سبيل تحقيقه محتسبًا الأجر عند الله يصنع إنسانًا صاحب رسالة ذات قيمة يقدم الخير والرحمة للبشرية «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» فامتلاكك حُلمًا خاصًا بك تجد به نفسك وتنفع به الناس يحقق ذاتك ويعطي لحياتك معنى، وليس بالضرورة أن تولد الرؤية مكتملة في عقل الإنسان منذ البداية، ولكن بالنية الطيبة والتقدم إلى الأمام يفتح الله عليه بالتدريج كما حصل مع محمد يونس. إن الحلم والرؤية الحية تبهج حياة صاحبها بالسعادة وتجعله يستلذ طعم المعاناة والألم كما قال الشاعر: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها *** تأتي إلا على جسر من التعب • أكاديمي وكاتب قطري [email protected] http://twitter.com/AlThani_Faisal