اقترن تباطؤ المراقبين الجويين في مطار القاهرة الدولي عن العمل بنقاشات ساخنة في البرلمان المصري وبتظاهرات خرجت عن نطاقها التقليدي، وهي ساحات جامعتي القاهرة وعين شمس لتمتد إلى وسط القاهرة وإلى مدن أخرى، لم تر منذ أمد طويل حشوداً من الجماهير ترفع عقيرتها عالياً ضد الحكومة. ويبدو أن المراقبين الجويين قد أدركوا مواطن قوتهم. إذ أصبحت السياحة واحدة من النشاطات الاقتصادية المهمة في مصر، يدل على ذلك عدد من زاروها في العام الماضي حيث بلغوا أكثر من ثمانية ملايين سائح. وتزداد هذه الصناعة ازدهاراً دونما تأثر بالأعمال الإرهابية التي حدثت مؤخراً، فسجلت نمواً في الربع الأول من هذه السنة نسبته أكثر من 12 % قياساً بالفترة نفسها من العام الماضي. ولم تتلق الشركات السياحية العالمية والفنادق وشركات الطيران أية إلغاءات لحجوزات، كما صرح السيد أحمد الخادم، رئيس الهيئة المصرية العامة للتنشيط السياحي ل «البيان» (2/5 ).وسخونة الأوضاع ظهرت جلية في اجتماع البرلمان المصري في العاشر من هذا الشهر لمناقشة شروط وضوابط الترشيح لرئاسة الجمهورية. إذ حصلت مشادات بين بعض أعضاء الحزب الوطني، الذين يمثلون الأغلبية، وبين المعارضة المتمثلة بالناصريين والإخوان وغيرهم، كانت حصيلتها تمرير شروط وضعت «بمقاييس» الحزب الوطني للتأهيل لخوض انتخابات رئيس الجمهورية. فقد تقرر السماح للأحزاب بالتقدم في الانتخابات الحالية بمرشح لها على ألا يتقدم أي حزب لأي انتخابات رئاسية لاحقة إلا إذا كانت له نسبة تمثيل في البرلمان ومجلس الشورى لا تقل عن خمسة في المئة. أما بخصوص المرشحين المستقلين فيلزمهم الحصول على تزكية 250 عضواً منهم 65 في البرلمان و 25 في الشورى و 160 في المجالس المحلية.التحرك الشعبي الذي بدأته «الحركة المصرية من أجل التغيير» والمعروفة اختصاراً ب «كفاية» أخذ يغري القوى الأخرى للنزول إلى الشارع. وعلى وجه التحديد جماعة الإخوان المسلمين المحظورة التي باتت ترمي بكل ثقلها في تلك المظاهرات وهذه الجماعة وإن كانت محظورة من الناحية الرسمية، إلا إنها من الناحية الواقعية ممثلة في أعلى سلطة شرعية وهي البرلمان، حيث يُحسب سبعة عشر عضواً مستقلاً عليها، فضلاً عن تواجدها الكثيف في مؤسسات المجتمع المدني كنقابة المحامين والأطباء والمهندسين وغيرها. وفي موقف له دلالاته الرمزية، تظاهر ألوف الإخوان، دون استئذان مسبق من وزارة الداخلية، في عدة مدن يوم الرابع من الشهر الجاري وهو يوم عيد ميلاد الرئيس حسني مبارك السابع والسبعين، وجرى اعتقال المئات منهم. والأرجح أن عين الإخوان ليست على الانتخابات الرئاسية القادمة. كما تقول جريدة الحياة (7/5 ) بل على الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في نوفمبر القادم، إذ يطمحون إلى زيادة نصيبهم إلى رقم أكبر من 17 عضواً بكثير، ولم يعودوا يقبلون بإجراءات تحول دون تحقيق طموحهم.والظاهر أن تحرك الإخوان المسلمين في مصر وغيرها إنما يأتي في إطار موقف الولاياتالمتحدة الأميركية من الجماعات الإسلامية التي تنبذ العنف وعدم ممانعتها لوصولها إلى السلطة، بل والتعامل معها كما هو الحاصل مع حكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية في تركيا. فلا شك أن زيارته إلى إسرائيل، التي بررها الكاتب الإسلامي فهمي هويدي تحت باب الضرورات (الوطن الكويتية 11/5) لا شك أنها تفتح نافذة للعمل البرغماتي أمام الإخوان لا بد وأنهم يسعون لاستغلالها. فتحت باب الضرورات، يمكن للجماعات الدينية لو تسلمت السلطة، أن تمرر كل السياسيات التي لا تلقى قبولاً شعبياً من حكومات علمانية وذلك بإضفاء اللبوس الديني عليها!! والملفت في هذا المخاض العسير هو موقف القضاة، إذ انضم هؤلاء إلى الحركة الشعبية مطالبين بأن يشرفوا على العملية الانتخابية كما هو الحاصل في الدول الديمقراطية، إذ لا يعقل أن تكون الحكومة «خصماً وحكماً» في آن معاً. ولعل اجتماعهم مساء الثالث عشر من هذا الشهر يعتبر اجتماعاً تاريخياً ستتحدث الأجيال عنه طويلاً. وهؤلاء قد رفضوا دعوة الرئيس الأميركي بوش إلى السماح لمراقبين دوليين للإشراف على الانتخابات الرئاسية. والواقع أن تلك الدعوة قد لاقت الرفض من جميع القوى السياسية في العلن، أما في الأحاديث الخاصة حسب جريدة النيويورك تايمز (11/5 ) فإن البعض يقر أن ذلك هو العامل الرئيسي وراء «زحزحة» الحكومة. أما المنظمات الأهلية فلا يُرى في إشرافها بأس حتى مرشد الإخوان محمد مهدي عاكف في حديثه للحياة ( 9/5 ) إذ «إن من حق المنظمات الدولية والحقوقية أن تراقب الانتخابات» كما يقول.وربما لا يعطينا تحرك الشارع هذه الأيام صورة كاملة عن المشهد المصري، ذلك أن السواد الأعظم ممن ينخرطون في التظاهرات هم من أبناء الطبقة المتوسطة «المرفهة نسبياً». في حين أن هناك مشهداً آخر قلما تلتفت إليه وسائل الإعلام وهو ما يجري من صراع في الريف المصري منذ العام 1997 حينما صدر قانون يتيح للملاك القدامى المطالبة بأراضيهم التي تم توزيعها أيام الإصلاح الزراعي. وكما يكتب دان ميرفي في جريدة الكرستين سينس مونيتور الأميركية ( 6/5) . فإن 24 مليون على الأقل من إجمالي عدد سكان مصر البالغ 70 مليوناً يعيشون على الزراعة بملكيات تقل عن خمسة فدادين (الفدان 4200 متر مربع ). والسياسة الحالية ترمي إلى تصفية الملكيات الصغيرة وإقامة مزارع كبيرة أكثر إنتاجية وتتوفر لها وسائل الدعم. ويلاحظ الكاتب أن تلك العملية وما يرافقها من إدعاءات الملاك السابقين تشعل «صراعاً طبقيا» يذكرنا بما شاهدناه في فيلم «الأرض» الشهير. ويشير الكاتب إلى أرقام استقاها من منظمة تطلق على نفسها «مركز الأرض لحقوق الإنسان» تبين أن 49 فلاحاً قد قتلوا و430 قد اعتقلوا العام الماضي بسبب قضايا متعلقة بنزاعات حول ادعاءات ملكية أراضٍ تقف الشرطة فيها عادة في صف كبار الملاك. خلاصة القول إن عقارب الساعة في مصر لا يمكن إرجاعها إلى الوراء، وإن قواعد اللعبة قد تغيرت، والمأمول أن يُدار هذا الصراع بحكمة وبالوسائل السلمية، خدمة لمصلحة الجميع ووصولاً بمصر إلى بر الأمان.