التحول الديمقراطي له ثمنه وغايته. والتراشق الذي حدث في مصر بمناسبة الاستفتاء على تعديل الدستور جزء من الثمن. ووحدها الإجابة عن التساؤلات المثارة حول خطى الإصلاح التالية على التعديل، يمكن أن تطمئن الجميع إلى صدق التوجه نحو الغاية. (1) بصرف النظر عن أية تفاصيل، فثمة حقيقة بالغة الأهمية ينبغي إدراكها، هي أن هناك شيئاً يتحرك إيجابياً في مصر، وان صوت المجتمع بمختلف فئاته وشرائحه علا خلال الأشهر الأخيرة بوجه أخص، مطالباً بإصلاح سياسي حقيقي، يكفل للناس حقهم في الكرامة وفي المشاركة والمساءلة وتداول السلطة. وهي مطالب لم تعد مقصورة على أهل الأحزاب وغيرهم من محترفي العمل السياسي، وإنما عبرت عنها فئات عدة من خارج الهياكل التقليدية، وهو ما يعني أن الدائرة أوسع بكثير مما يظن، ومن ثم فالأمر ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، لان أي تجاهل لتلك الرسائل أو أي خطأ في قراءتها. قد يكون أمراً باهظ التكلفة، فضلاً عن كونها من الكبائر التي لا تغتفر في حق مصر، وفي حق التاريخ. ولست أبالغ إذا قلت ان العالم العربي يمر بتفاعلات إيجابية مماثلة، لها تجلياتها المختلفة. والذين تتاح لهم فرص لقاء المثقفين والناشطين العرب في المنتديات والمناسبات المختلفة وأنا واحد منهم يلتقطون الكثير من الإشارات الدالة على حدوث تلك التفاعلات، التي لا تتاح لأغلبها للأسف فرصة الظهور إلى العلن. بل بوسع أي متابع لمواقع “الإنترنت” أن يرصد الكم غير العادي من المنابر والأصوات المطالبة بالإصلاح السياسي في مختلف الأقطار العربية بلا استثناء. لقد شاركت خلال الأسابيع الأخيرة في أربعة ملتقيات توزعت على عواصم عربية مختلفة، مغربية ومشرقية. ولم يكن جديداً ما سمعته عن تجليات النضال المدني والمحاولات الدؤوبة لرفع الصوت والتعبير عن أشواق المجتمعات المتطلعة إلى الحرية. لكن ما لفت انتباهي أن التفاعلات الحاصلة في مصر، رفعت من معنويات الناشطين في مختلف الأقطار، وأعطتهم أملاً كبيراً في التفاؤل بالمستقبل. حتى قال لي اكثر من واحد أن ما يجري في مصر إيجاباً أو سلباً سيكون له تأثيره المباشر ليس فقط في تقدمهم في مسعاهم، وإنما أيضاً في موقف السلطات منهم. ومن هؤلاء من اعتبر أن “عودة مصر” بعد طول غياب، وسماع صوت شعبها بعد طول صمت وانحباس، من إرهاصات قيامة العرب (البعض تحدث عن انتفاضتهم)، في القرن الميلادي الجديد. بعض الذي سمعته لم يكن دقيقاً تماماً. وكان ذلك ناشئاً إما عن المبالغات الإعلامية أو عن حرص البعض على الحديث في الموضوع بما تمنوه وليس بما هو حاصل. وفي الحالتين فإن ما سمعته كان كاشفاً عن مدى تعلق أبصار العالم العربي بما يحدث في مصر، ويقينهم بأن قيامة العرب معلقة على قيامة مصر، خصوصاً أن خبرة العقود الثلاثة الأخيرة أقنعتهم بأن العكس صحيح تماماً! (2) إذا اعتبرنا أن الدرس الأول في ممارسة الحرية يعترف بحق الناس في الاختلاف، وفي التعبير السلمي عن آرائهم، فينبغي أن نقر بأن علاماتنا في الإجابة عن أسئلة ذلك الدرس كانت بدرجة “مقبول” في شق، ودرجة “ضعيف” في الشق الآخر، كيف ولماذا؟ بدرجة أو أخرى مورس حق الاختلاف في الصحف، القومية والحزبية والمستقلة، رغم أن بعض كتاب الصحف القومية (الموالية) كانوا أضيق صدراً واكثر خشونة في اتهام جماعات المعارضين. وفي حالات محددة ذهب نفر من أولئك الكتاب إلى ابعد مما ينبغي، حيث لجأوا إلى تجريح الأشخاص، دون المواقف والأفكار. ولا أستطيع أن اعفي الكتاب المعارضين من “طول اللسان”، ولكن يظل وزر الأولين اكبر، لأن الصحف القومية هي الأقوى تأثيراً (لأسباب تاريخية وليست مهنية بالضرورة)، ولأنها منسوبة إلى السلطة بدرجة أو أخرى. وإذا ذهبنا في المصارحة إلى ابعد، وتوفرت لنا شجاعة نقد الذات فلا مفر من الاعتراف بأن الصحف المذكورة كانت حزبية أكثر منها قومية. بمعنى أن انحيازها للحزب الوطني كان واضحاً (صارخاً إن شئت الدقة). ومن ثم فإن موقفها من الأحزاب الأخرى في الجماعة الوطنية اتسم بالتجاهل حيناً وبالتنديد والاشتباك في أحيان أخرى كثيرة. (3) لقد ضاقت بعض الصدور بالاختلاف الذي أطلق الدعوة إلى المقاطعة، ووصفه بعض أركان الحزب الوطني بأنه تعبير عن السلبية، وادعى نفر منهم بأنه موقف رافض للإصلاح السياسي. وتلك حجة ضعيفة لم تقنع أحداً، لأن الأحزاب التي دعت إلى المقاطعة هي ذاتها التي دخلت في حوار مع الحزب الحاكم من البداية، ولم تتطلع إلى اكثر من تحسين شروط المادة التي أريد لها أن تكون قاطرة الإصلاح ومدخلاً إليه. من ثم فإن موقفها كان تعبيراً عن الاحتجاج، الذي وجدت أن صوته يمكن أن يصل إلى الرأي العام عبر المقاطعة، في حين أن الرسالة ذاتها يتعذر توصيلها من خلال التصويت ب “لا” خلال الاستفتاء. على الأقل فتلك وجهة نظر قد يتفق عليها أو يختلف، لكن يتعذر وصفها بالسلبية، ومن العسف دمغها بأنها معارضة للإصلاح. وفي كل الأحوال فإنها تظل نوعاً من ممارسة حق الاختلاف. لقد كان البون شاسعاً والتناقض قوياً بين الأصل والصورة. حتى إذا ما قرأ المرء بيانات وزارة الداخلية المصرية وتقارير الصحف القومية، وقارنها بما نشرته صحف المعارضة والصحافة العالمية، لخطر له أن الجهتين تتحدثان عن بلدين مختلفين وتجربتين متباينتين! لذلك كان طبيعياً أن يكون تقدير الأداء على ذلك الصعيد بدرجة “ضعيف”. ثمة حقيقتان جوهريتان للغاية ينبغي أن يعيهما الجميع في المشهد الراهن، الأولى أن التحول الديمقراطي له ثمنه واستحقاقاته، وليس هناك تحول مجاني أو بلا ألم. وصدق التوجه نحو التحول لا يقاس فقط بإصدار المراسم أو تغيير النصوص وتبديلها، ولكنه يقاس بمدى الاستعداد لدفع ثمن ذلك التحول. وهذا الاستعداد يختبر من خلال الموقف من احترام حقوق المعارضة في الجماعة الوطنية. بل اذهب إلى القول ان قمع المعارضة بأي سبيل كان، لا يسكت صوتها أو ينهكها في حقيقة الأمر، بقدر ما أنه يجهض مشروع الإصلاح وينال من صدقيته. بل إن ذلك القمع يخلف مرارات ويحدث تراكمات من شأنها أن تهدد الاستقرار والسلم الأهليين، الأمر الذي قد يؤثر في نهاية المطاف في مصالح الذين يصرون على الانفراد باحتكار المشهد السياسي، ومصادرة حق غيرهم في المشاركة. الحقيقة الجوهرية الثانية أن ثمة متغيرات في العالم لم يعد ممكناً تجاهلها، جعلت أعين المنظمات الدولية مفتوحة على ما يجري في أنحاء العالم مما يتعلق بحقوق الإنسان بمختلف عناوينها ودرجاتها. بل فتحت الباب لإمكانية محاسبة تلك الدول وتوقيع عقوبات عليها في حالة إصرارها على المضي في ممارسة تلك الانتهاكات. ولا ننسى أن موضوع الديمقراطية اصبح “ورقة” في يد الإدارة الأمريكية تلوح بها وتضغط بين الحين والآخر. ولئن لعب الهوى السياسي دوراً في كل ذلك، إلا إنه لا ينفي حقيقة تزايد الاهتمام الدولي بالموضوع، والصعوبات المتزايدة التي أصبحت تعترض طريق الذين يسعون إلى الاستمرار في احتكار السلطة، أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. (4) لقد اصبح التعديل الدستوري أمراً واقعاً، بعد الإعلان الرسمي عن تأييد الأغلبية له. بالتالي فإنه من الناحية القانونية لم تعد هناك جدوى من المنازعة في شأن المادة المعدلة، رغم أن باب التعامل السياسي معها يظل مفتوحاً. في هذا الصدد فالمشهد يثير عندي نقطتين هما: أن الإعلان عن تعديل المادة 76 من الدستور المصري جاء مفاجئاً، وفي أعقاب توافق التصريحات الرسمية على رفض مبدأ التعديل. ولم تكن المفاجأة هي العنصر الوحيد، وإنما كان ضيق الوقت عنصراً آخر، الأمر الذي لم يوفر فرصة كافية لمناقشة المادة، أو حتى لتفعيلها والتعويل على آثارها في انتخابات الرئاسة التي يفترض أن تتم في شهر سبتمبر/ ايلول القادم. ذلك أن الفترة التي ستتاح للترشيح للرئاسة والتنافس عليها لن تتجاوز ثلاثة اشهر، وهي مهلة غير كافية لخوض معركة من ذلك القبيل، في بلد تعداده 72 مليون نسمة، وفي ظل سيطرة حكومة الحزب الحاكم على أهم المنابر الإعلامية. النقطة الثانية والأهم هي أن الإعلان عن تعديل الدستور أشار صراحة إلى أن ذلك التعديل هو خطوة على طريق الإصلاح، يفترض أن تتبعها “خطوات أخرى”. والى أهمية تلك الإشارة إلا أنها لا تخلو من غموض، لأن أحداً لم يعرف حتى الآن، ما “الخطوات الأخرى”؟، متى ستعلن؟ وما هي أولوياتها؟ وما هي الجهة التي ستحددها؟ إن السؤال الذي ينبغي أن يطرح في هذا السياق هو: إلى متى يظل المجتمع مؤدياً دور “حارس المرمى” الذي يقتصر دوره على تلقي “الأهداف”، في حين يظل واقفاً في مكانه لا يتحرك، ولماذا لا يتمكن من النزول إلى قلب “الملعب”، لكي يصبح شريكاً في توجيه الأهداف؟ . وحده الإصلاح السياسي الحقيقي يوفر الإجابة عن السؤال.