ظل أهل السودان يحلمون بخمود ألسنة النار المتصاعدة من حريق الحرب في الجنوب.. تلك الحرب التي استمرت لنصف قرن من الزمان، فدخلت كل بيت و سكنت كل حي..فما من أسرة في شمال البلاد و جنوبها إلا و منها ضحية لتلك الحرب المجنونة.. و كان السلم أمنية عزيزة المنال، قال الساسة للناس أنها مخبوءة في أروقة (نيفاشا)، و أن بعدها باباً ينفتح على النعيم و رغد العيش الذي لا بؤس بعده.. و لكن الذي حدث بعد نيفاشا، أن السعير الذي كانت تختزنه غابات الجنوب انفلت ليجتاح كل الأرض.. و كأن نيفاشا كان صكاً لعبور الفوضى إلى كافة أرجاء الوطن.. قبل أيام قلائل بعيد توقيع اتفاق سلام دارفور الأخير في أبوجا (نيفاشا الصغرى)، اندلعت التظاهرات العارمة في قلب العاصمة، و كادت معسكرات النازحين في دارفور أن تتحول إلى ساحة لقتال الشوارع حين لعلع السلاح هناك، وفتك الفوضويون بموظفي المنظمات الطوعية و حنود الشرطة الاحتياطية!!.. و قبل ذلك بأيام أيضاً قال وزير الداخلية إنه و في داخل العاصمة وحدها (توجد 48 مليشيا) تتحرك بأسلحتها!!..و التصريح لوزير مسؤول، و مسؤول جداً و لا يعرف العبث بالكلمات!!. و في أدغال الجنوب تدور حرب مكتومة الصوت، حيث تقوم قوات الجيش الشعبي – الذي يفترض أنه الجيش الرسمي لدولة الجنوب- بتصفية حسابات الخصومات قديمها و حديثها، و لا فرق بين أن تكون تلك الخصومة سياسية أو عرقية، و في الوقت ذاته تمرح المليشيات المتمردة في غرب البلاد و تتعارك و تصب جام غاراتها على مضارب الأعراب..و في الشرق أصبح الطريق الرئيس الواصل بين الميناء و العاصمة محلاً لعمليات المتمردين من ثوار الشرق و الغرب.. إذا تأمل الإنسان هذه الحالة من الفوضى و النزوع إلى السلاح لقال أن ملامح دولة تتفكك في طريفها إلى التشكل.. و لكن الأمر أكبر من ذلك.. فالكارثة الكبرى أن السودان أصبح مستقراً للقوات و المليشيات المسلحة من كل حدب و صوب..و هذا في حد ذاته وضع يجعلك تتساءل: ما هذا الذي تم في نيفاشا؟!..و كيف تصمد الدولة متماسكة في حالة الحرب لنصف قرن من الزمان.. و لا تتماسك في حالة السلم لعقد واحد؟!.. أي صفقة جهنمية تلك التي أبرمت في نيفاشا، و أي شياطين أولئك الذي نسجوا خيوطها؟!.. و حين نقرأ الخارطة العسكرية لسودان (ما بعد نيفاشا) نجد أن هناك ثلاثة جيوش رسمية أفرزتها الاتفاقية، وهي: (القوات المسلحة السودانية، و الجيش الشعبي لتحرير السودان، و القوات المشتركة التي يتم تكوينها من الجانبين)، و نجد قسمين منشقين لمليشيا سابقة كانت محسوبة على الجيش السوداني هي (قوة دفاع الجنوب) التي انقسمت إلى جناحين أحدهما شد رحله إلى الحركة، و الآخر آثر البقاء مكانه.. و بين هذين الشقين صراع دموي لا هوادة فيه.. و نجد عشرة آلاف من القوات الدولية التي جاءت بها نيفاشا مع شرطتها التي يتجاوز تعدادها المئات السبع.. و إذا ما اتجهنا غرباً وجدنا سبعة آلاف من قوات الاتحاد الإفريقي تنتظر المزيد الدولي.. و كما وجدنا ثلاث فصائل كبرى رئيسة للحركات المتمردة في دارفور (العدل و المساواة) و حركة تحرير السودان بشقيها(أركوي) و (عبدالواحد) بالإضافة إلى عشرات من الفصائل الصغرى و قطاع الطرق!!.. و حين نتجه شرقاً نجد فصيلين رئيسين هما (مؤتمر البجا) و (الأسود الحرة) بالإضافة إلى فلول حركة العدل و المساواة الدارفورية، و تحاول هذه الجموع الانقضاض على منطقة تواجد قوات الحركة الشعبية في (همشكوريب) بعد خروجها منها وفقاً للاتفاقية.. و لكن السودان أصبح مسرحاً للمليشيات من كل حدب و صوب حتى من خارجه، ففي أحراش الجنوب يتحرك- و بحرية تامة- (جيش الرب) اليوغندي الذي يقوده المعارض جوزيف كوني، و في إثره دخلت القوات اليوغندية- وفقاً لاتفاق غريب مع حكومة السودان- لتقاتله داخل الأراضي السودانية!!.. و الأغرب من هذا الاتفاق أن كان لستة أشهر، و لكنها امتدت إلى أجل غير مسمى..!!. و في الغرب الأقصى تتجمع القوات المعارضة للحكومة التشادية، حيث يدور صراع عنيف كاد أن يطيح بالرئيس دبي في هجوم مشهود على العاصمة انجمينا..و هو في جانبه الأمامي نزاع مسلح بين الحكومة التشادية و معارضيها الناقمين، و لكنه في جانبه الخلفي صراع على النفوذ بين أمريكيا و فرنسا بيادقه الرئيس دبي و معارضيه و رقعته تتمتد من غرب دارفور حتى انجمينا في أقصى غرب تشاد!!. أي دولة تلك التي يمكن تحتمل وضعاً بهذا الصفة، و يكون الوضع أكثر قتامة إذا وضعنا في الحسبان أن القبائل العربية- المسلحة بطبيعتها- لن تحتمل طويلاً ما يصنعه بها خور السياسة..هذه القتامة تزداد حلكة إذا ما سمحت الحكومة السودانية بدخول قوات دولية جديدة، و لك أن تتخيَّل ما يترتب على ذلك من أوضاع في اقل مآلاتها نشوب حرب شاملة، و قدوم فرسان جدد إلى الساحة، فالقاعدة ليست بعيدة عن تلك المنطقة و هي معروفة لها منذ بداية التسعينات، و بل كانت معبراً أساسياً للمقاتلين إلى الجزائر و ليبيا.. هذه الأوضاع كلها تثبت حقيقة واحدة، وهي أن توقف الحرب لا يعني بالضرورة السلام، و لكن الخضوع و الرضوخ للقوى الاستكبارية يعني بالضرورة مزيداً من الضياع و فقدان الكيان. [email protected]