ذات يوم دار حول السياسة، بين الفيلسوف الصينى (كونفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسى كوغ) الذى كان يسأل أستاذه عن السلطة. (أجاب الفيلسوف قائلاً: على السياسة أن تُؤمن أشياء ثلاثة: (1) لقمة العيش الكافية لكل فرد. (2) القدر الكافى من التجهيزات العسكرية. (3) القدر الكافى من ثقة الناس بحكامهم. سأل التلميذ: وإذا كان لابد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة، فبأيها نضحي؟ أجاب الفيلسوف: بالتجهيزات العسكرية! سأل التلميذ: وإذا كان لابد أن نستغنى عن أحد الشيئين الباقيين، فبأيها نضحي؟ أجاب الفيلسوف: فى هذه الحالة نستغنى عن القوت؛ لأن الموت كان دائماً هو مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أى أساس للدولة). [تاريخ الحضارة: ترجمة بدران] قاعدة عظيمة فى السياسة وركيزة أساسية فى علاقة الحاكم بالمحكوم. وهى الثقة المتبادلة. ولنتأمل عمق هذه الركيزة بين الحبيب صلى الله عليه وسلم وأتباعه: "بينما رجلٌ يسوقُ بقرةً له قد حملَ عليها، فالتفتَتْ إليه البقرة، فقالت: إنى لم أُخلق لهذا، ولكنى إنما خُلِقْتُ للحرثِ". فقال الناسُ: سبحان الله! تعجباً وفزعاً أَبقرةٌ تكَلَّمُ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنى أُومن به وأبو بكرٍ وعمر". [مسلم] وهذا هو الدرس الخامس الذى نتلمسه من تأملنا لتداعيات ثورتنا. فما نفتقده الآن فى مسيرة ثورتنا سواء بين الحاكم والمحكوم أو بين الفئات المجتمعية والقوى السياسية والأطياف الثورية وبعضها البعض؛ هو الثقة. وهو سبب موجات التخوينات والاتهامات المتبادلة وأساس حالة الاستقطاب الساحقة الماحقة التى تغذيها خفافيش الظلام بأنيابها الإعلامية والاقتصادية. ونتذكر كيف خف ضغطها عندما بدأت حلقات الحوار الوطنى بين الرئاسة والقوى السياسية. وتحتاج لمزيد من الصراحة والمكاشفة والشفافية بين المؤسسة الحاكمة ورعاياها حتى يتفهموا مغزى قراراتها. 6-الإسلاميون وقمة الجبل المدببة: هناك صورة ذهنية متجذرة فى داخلنا؛ وهى أن قمة الجبل مدببة وكأنها رأس حربة. ومن جرب الصعود على قمم الجبال فسيدرك أن القمة واسعة وفسيحة وتتسع ليس للعشرات فقط بل للمئات والآلاف من غيرنا. وكذلك هى قمة الهرم السياسى والفكرى والاجتماعي؛ فهى واسعة وفسيحة ولا تضيق بالمشاركين الآخرين. ومن ثم ينطبق هذا المفهوم على أصحاب المشروع الحضارى الإسلامي. فلن يستطيع فصيل واحد أو حزب واحد أن يزعم أنه وحده؛ ووحده فقط هو القادر على حمله وحده، بأطروحاته وحده، وبمشروعه وحده، وبمفكريه وحده، وبكوادره وحده؛ أن يحقق أمل الأمة فى استدراك خروج أمتنا من مرحلة القصعة والوهن الحضارى الإسلامي، وتحقيق المشروع الإسلامى المنشود لنهضة الأمة. ومنذ عقود؛ وبالتحديد فى ثمانينيات القرن الماضى طرح علامة أمتنا د.القرضاوى فى كتابه الرائع الذى يسبق عصره (أولويات الحركة الإسلامية)؛ أن المشروع الحضارى وحمل لواء تجديد ديننا لا يحققه رجل واحد أو فصيل واحد أو جماعة واحدة، بل بعمل جماعى يتميز باختلاف التنوع لا اختلاف التضاد. وذلك بناءً على قراءة رائعة للمبدأ الرسالى للحبيب صلى الله عليه وسلم، الذى يقرر استمرارية حركة الإبداع فى فهم الرسالة، وديمومة عملية التجديد فى عرضها: "إن اللهَ يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". [رواه أبو داود فى الملاحم] وهذا هو الدرس السادس المرير تعلمناه كلنا كما أزعم من تداعيات ثورتنا. فمشروع النهضة ليس ملكاً لفصيل أو جماعة أو حزب بل بجهود متنوعة ومتناسقة ومتعاونة. لا تؤمن بالمفاهيم الاستئصالية للآخر أو الاستقصائية لفكر الآخر. لذا علينا أن نعيد قراءة درس الخندق الذى حمى به الله المجتمع الوليد بالمدينة بمجرد انتفاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بإبداع الفرس الذى قدمه سلمان الفارسي. عندما (سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشارى أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابى النبيل سلمان الفارسى رضى الله عنه. قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا. وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك. وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة). [الرحيق المختوم: المباركفوري] 7-لا تملأ فمك بما لا تستطيع مضغه: حكمة صينية رائعة تقرر أنه على كل إنسان أن يوازن بين طموحاته وبين إمكانياته. وهى كذلك تقرر ألا يحمل كل منا نفسه ما لا تطيق. ولكن مغزاها الثورى أنه على المسؤول ألا يفرط فى الآمال والأحلام والوعود بما لا يناسب قدراته وبما لا يسمح به واقعه. وهذا ما لمسناه فيما سمعناه عن برنامج مؤسسة الرئاسة بوعود المائة اليوم الأولى من حكمها. وكيف عرضها وعرض محبيها للحرج ووضعنا فى مقام المدافع بلا حجج. رغم أنه نفس ما وقع فيه (أوباما) فى فترة حكمه الأولى. فَلِمَ لا تمتلك المؤسسة الحاكمة الحكمة؛ فتخرج إلى شعبها وتتحدث بشفافية وصراحة عن المعوقات التى تواجه طموحاتها، وعن ذيول النظام القديم واستبسالهم فى عرقلة مسيرة الثورة إعلامياً واقتصادياً، وعن خطر الدولة العميقة ودورها الأخطبوطى الجهنمى فى إفشال منجزات الثورة والتخويف من مستقبلها. على أمل استكمال بقية الدروس بعونه تعالى. E-Mail: [email protected]