ما من شك فى كون التصويت فى الانتخابات والاستفتاءات العامة، جزء أساسى فى العملية الديمقراطية وفى معرفة توجه ورأى الأغلبية فى مجتمع ودولة ما، فى أشخاص أو رئيس أو دستور. غير أن ظروف الحكم الديكتاتورى العسكرى الأمنى الذى حُكمت مصر به، على مدار عشرات السنين، تسبب فى انصراف المصريين عن المشاركة فى التصويت، لعدم وجود ثقة فى الجهات المشرفة على الانتخابات من ناحية، وللنتائج التى كانت تعلن بنسب 9. 99 % . من ناحية أخرى، وكانت السبب فى مطالبة المعارضة على مدار سنوات طويلة لجعل القضاء هو الجهة المشرفة على العملية الانتخابية. وكان هذا المطلب محلَّ تقدير واحترام حتى ناله المصريون قبل سنوات قليلة، وصار القضاة هم الذين يشرفون على التصويت ويعلنون النتائج. لكن عددَ القضاة فى مصر لا يسمح بإقامة الانتخابات فى يوم واحد، نظرًا لعدد الناخبين الكبير، وما ينتج عن هذا العدد من طوابير تكتظ وتتزاحم، فيما بينها لعدة ساعات، لكى يمكن الوصول للجنة والإدلاء بالصوت الانتخابى. إن حال شعب مصر ينطبق عليه المثل الشعبي الشهير "يخرج من نقرة ليقع فى دوحديرة" أو "المستجير بالنار من الرّمداء"، بحيث تحول التصويت لنوع من تعذيب المواطنين. فكل ناخب، بما فيه النساء وكبار السن والعجزة والمرضى وأصحاب الحاجات الخاصة، مطلوب منه أن يقف عدة ساعات على قدميه، لكى تتاح له المشاركة. وفى الاستفتاء على الدستور الجديد لمصر، زادت الطوابير، طولًا وانتظارًا، بعد امتناع عدد من القضاة عن الإشراف على التصويت. فإلى من يذهب شعب مصر، ولمن يشكو حاله؟ بعد نضال طويل للمطالبة باستخدام حصانة القضاة فى إخراج انتخابات أو استفتاءات نزيهة، تحول المطلب التاريخي إلى حلقة جديدة فى سلسلة تعذيب المصريين! فى التجربة التركية التى أتابعها وأرصدها لسنوات طويلة، هناك لجنة انتخابات عليا مستقلة يقودها قاضٍ كبير ومعه مجموعة من القضاة والشخصيات العامة المحايدة، وهى المعنية بتنظيم الانتخابات وتعلن النتيجة، وهى بنفس الوقت الجهة الوحيدة التى يتم تقديم الاعتراضات لها. هذه اللجنة تستعين بموظفى الدولة للمشاركة فى عملية الانتخابات، وذلك عبر الاختيار العشوائى بالحاسوب. بحيث يفاجأ موظف الدولة ببرقية، تبلغه بأنه رئيس أو عضو فى اللجنة رقم كذا، فى نجع كذا بمحافظة كذا، والآخر يصله نفس البرقية التى تفيد أنه احتياط. المجموعة المشكلة للجنة، تتجمع من أماكن متفرقة من الدولة، فى مكان واحد، بحيث تجمع بين "الشامي والمغربي"، لا أحد يعرف الآخر من قبل، ولا لديه فكرة عن توجهه الفكرى أو الأيديولوجى أو العرقى أو الديني، فيتحول الأمر إلى بوتقة من الحذر والصمت والحياد. والأهم من كل هذه الإجراءات الضامنة للحياد ونزاهة التصويت وحماية الرأى، هو الرقابة الشعبية على التصويت، سواء من الأحزاب أو من مؤسسات المجتمع المدنى. هذا التنظيم الانتخابي غير المعتمد على القضاة ولا أعضاء النيابة العامة، أصحاب الحصانة، والمستند على آلاف من موظفى الدولة، وهم كثر، يسمح بجعل مقر اللجنة /المدرسة يتضمن 10-15 لجنة فرعية، وهذا بدوره، يسمح للعشرات أو المئات بالتصويت فى مكان و آن واحد، دون الحاجة للوقوف فى صفوف لا خارج اللجنة ولا داخلها، ويختار الناخب الوقت المناسب له، خلال المدة اليومية التى تجرى فيها الانتخابات. فضلاً عن استخدام الحاسوب فى تحديد نتيجة الاستفتاءات أو الانتخابات، خلال 3-4 ساعات فقط. وأذكر هنا القارئ الكريم، أن عدد الناخبين بتركيا متقارب جدًا مع عدد الناخبين بمصر. هذا ما أراه وأتابعه بنفسى طوال السنين الطويلة، بحيث يتحول يوم الاستفتاء أو الانتخابات إلى يوم عيد، هدوء وسكينة وأجواء طيبة ومشاركة شعبية، بمعدل بين 70- 88% ، والشعب يقول كلمته الحاسمة والملزمة للجميع. بناءً على ما سبق، وتعاطفى الكبير مع أحوال كبار السن والمرضى والشيوخ والنساء، أرجو أن نتوجه بعد نتيجة الاستفتاء، صوب الاستقرار العام ونحترم إرادة الناخب أو المواطن وننزل عندها جميعًا، حكومة ومعارضة، لكى نستخدم جهودنا وعقولنا وسواعدنا فى البحث عن حلول للمشاكل الجمّة التى يواجهها شعبنا. ذلك أن الحلول والمعالجات المجتمعية الجادة والبعيدة المدى، تحتاج لاستقرار وأمن وهدوء وسكينة وتعاون وتضامن. لأن العكس من هذا، وصرف الجهد فى الشوارع والميادين والتظاهرات والاعتصامات والتراشقات المستمرة، سيزيد عذاب المصريين، ويدمر ما تبقى من معنويات، ولن يكون هناك أى فرصة متاحة لأى رئيس كان أو حكومة أو برلمان للعمل السليم وتنفيذ وعودهم للشعب.