يبدو أن واقعنا السياسي لا يزال قادراً على اتحافنا بالمزيد من المساخر السوداء، تدهش لها العين ويدمع القلب منها، تلك المساخر التي تستدعي، بطبيعة الحال، لذاعة الأقوال الشعبية ولدغاتها مثل «كان في جرّة وطلع لبر» و«اللي ما يشوف من الغربال يبقى أعمى».. إلخ. ولقد بدا ذلك واضحاً للعيان منذ أن تفجر بالون الترشيحات الرئاسية في كرنفال «الدولة» المصرية. ولقد تعمدنا وضع كلمة «الدولة» بين مزدوجين بعد أن تحوّل مشهد الترشيحات إلى سيرك متواضع طال تهريجه وأكروباته الوزن الثقيل لاسم مصر.وتاريخ مصر السياسي والحضاري لا يستحق منا أن يُساق بهذا الشكل إلى دوائر فوضى الترشيح التي دخلها كثيرون بدعوى حرية الترشح، وهي كلمة حق يُراد بها باطل.. لأن رغم كل المشكلات السياسية التي تعيشها مصر منذ زمن، إلا أن استحقاقات الرئاسة ومسوغاتها أكبر وأجلّ بكثير من هذا التدافع الذي يشبه التدافع في طوابير الجمعيات الاستهلاكية، على اسم بلد لا يزال يحتفظ بمكانته في التاريخ البشري والحضاري. غالبية النماذج الباهتة التي رأيناها، والأسماء الخالية من أي دسم تجعلان المرء يشعر بالحزن العميق على أرض الكنانة وهي ترى كل من هبّ ودبّ يحاول التسلق على أكتافها التي نحلها الظلم والإجحاف، والتعلق بذيل ثوبها الذي مزقته السنوات العجاف على أيدي العابثين. نحن في حاجة إلى جرعة من الخجل عندما نجد أناساً لا يفرّقون بين «كرسي العمدة» و«عرش المليحة»، وبين صلاحية علب «النقانق» وصلاحيتهم لحضور هذا المهرجان الانتخابي، وما يزيد الخجل والضيق وطأة وجود أفراد مدعومين ب «فياجرا أميركية» يتفاخرون بفحولتهم القيادية من دون أن نشم في ثيابهم رائحة كفاح مصري حقيقي، أو نعثر على سجل واحد خالٍ من الشبهات. من وراء هذه المهزلة التي حوّلت المنافسة على حكم مصر إلى ما يفوق تلفزيونات الواقع فرجة وتفكهاً وتسلية؟ إذا كانت السلطة هي التي نسجت هذه الملهاة من وحي «اسكافية القوانين» بحجة إعطاء الفرص المزيفة، وفتح الباب لحرية الترشيحات، تكون قد ارتكبت خطأ شنيعاً، لأنها قدمت مصر إلى العالم بوصفها عزبة لا دولة، وأن مصر بلد ليس في مقدوره إنجاب إنسان واحد يليق بالمنافسة على الفوز بقلبها، وحراسة تاريخها، وإنصاف أهلها، وهذا في حد ذاته يخلع عنها شرعيتها في حكم بلد قال فيه التاريخ كلمته وجفت الصحف. لأن التاريخ علّمنا أن أية محاولات لتضخيم الذات وتقزيم الموضوع سوف تواجه بثمن فادح ولو بعد حين. عموماً، لسنا مشغولين الآن بهذا الموضوع، لكن إذا كنا متأكدين من عدم أهلية أكثر الأسماء، واستحالة فوزها، إلا أنه من الصعب التخلُّص من حالة الإحباط التي أصابت كل من يغار على مصر، ذلك الاسم الذي صنع تاريخ غزاته قبل أن يقدم لنا زعماء وقادة بكل مثالبهم وفضائلهم. من حقنا جميعاً أن نسأل عن أبناء مصر القادرين على قيادتها إلى بر الأمان، من حقنا أن نسأل عن سر غيابهم أو من غيَّبهم ودفعهم إلى الصمت والانزواء.. لكن من حقنا أيضاً أن نقول لهؤلاء المترشحين: ارجعوا إلى مصاطبكم، عودوا إلى مقاهيكم فزهر النرد أولى بكم، عودوا إلى أحزابكم الكرتونية، انظروا إلى مراياكم حتى تعرفوا حقيقة ما اقترفتموه في حق أنفسكم وحق مصر. وإذا كان يحلو لمروجي الواقع البديل أن يقولوا: هذان أمران أحلاهما مُر، فنحن نقول: هذان أمران أمرّهما حلو.. لحين إشعار آخر. --------- صحيفة البيان الاماراتية في 6 -8 -2005