البحث عن الحقيقة دائماً شاق ٌمضنٍ، خصوصاً في بلادنا حيث التعتيم المتعمد والحقائق المردومة تحت زحام الحياة اليومية؛ ولئن كان الإعلام الحر الذي يسلط الأضواء علي الزوايا المعتمة ويفضح كثيراً من الظلمات مكسباً، فإنه تضاعف بتلك المساحة المتاحة للقراء لكي يعبروا عن آرائهم... كما أنه من اللافت أيضاً مرور الأحداث الأهم والأعمق مغزيً مرور الكرام دون أن تنال ما تستحقه من الاهتمام والتركيز والتحليل الهادف إلي استخلاص المعني والدلالة.. هناك مثلاً تلك الظاهرة التي أزعجتني فأرقتني...بدايةً، علي أن أعترف بأنني من أولئك الذين يدمنون قراءة صفحة الحوادث، إلا أنني لم أكن أتوقف عندها إلا فيما ندر، وحتي حينها لا أفعل ذلك طويلاً...كنت كمن يراقب عالماً بعيداً من الدم والعنف لا يمت له بأدني صلة من وراء أسوار حصنٍ وصحاري شاسعة، ثم ما ألبث أن أنصرف مسرعاً إلي ما تصورتها موضوعاتٍ أكثر إلحاحاً مكتفياً ببعض التعليقات البليدة المكررة كالتمائم عن العنف الغريب عن مجتمعنا وعن غياب الأخلاق وعن استفحال ظاهرة العشوائيات التي زحفت من الهامش لتحتل كل هذه المساحة من واقعنا وإعلامنا... إلا أنني منذ وقتٍ قريب، تحديداً منذ حادثة سائق المقاولين العرب، توقفت عن التفكير فيما عداها وفقدت النوم... أوقفتني تعليقات القراء..أولئك الذين يطلق عليهم الأغلبية الصامتة... أغلبهم، إن لم يكن كلهم، أعرب عن تعاطفه مع السائق - الجاني عوضاً عن التعاطف مع القتلي - الضحايا...أكثرهم التمسوا له أعذاراً وافترضوا أنه مظلوم بلا أدني شك... أغلبهم كان متأكداً سلفاً من أن الأمر لن يخرج عن أحد احتمالين، إما أنه أُهين من زملائه أو أنهم سرقوه... ... ثم بعد ذلك أتي مقتل ضابط أمن الدولة السابق... توقفت لأنني أدركت أن هناك نقصاً عميقاً في فهمنا للواقع ولنفسية الناس، أولئك الذين نكتب عنهم ونتحدث باسمهم...إذ ها هم( أو شريحة منهم) يتحدثون بأنفسهم... إن الذين يعلقون علي الإنترنت لا يفعلون ذلك من السجن أو المعتقل وإنما من فضاء بيوتهم وأعمالهم أو من الشارع علي مقاهي النت، وهم من حيزهم الشخصي، دون رقابة ودون وجوه يتعاطفون مع القاتل ويختلقون له المبررات... هؤلاء ناس طلقاء حولنا في كل مكان... غاضبون.. بلا حد.. راغبون في القتل... لقد تكشف لي بعد طول تفكير أن الباعث وراء الظاهرة المرعبة هو القمع والقهر الذي ينطلق من تصورٍ راسخٍ بليدٍ لطبيعةٍ مفترضة للشعب المصري، طبيعة مسالمة صبورة، جامدة لا تتغير!... هؤلاء الناس عينة تمثل شعباً سلب كل شيء، شعباً مطحوناً بين شقي رحي، وحين صبر ثم صبر لم تزد أموره إلا سوءاً... أما إذا سولت له نفسه الأمارة بالسوء أن يعترض أو يسير مع إخوانه محتجاً متأوهاً فسوف يعصف به إعصارٌ من جحافل الأمن تضربه بالعصي والأحذية كالكلاب أو تلقي به في الحبس مكبل الأيدي والأرجل بالسلاسل كالعبيد كما حدث مع شباب 6 أبريل! 'كل ما هو صلب يذوب في الهواء' قالها مفكرٌ أوروبي عبقري، وكذلك يذوب تصور النظام القاصر (و للأسف تصورنا أيضاً إذ غشيتنا بلادة النظام!)عن الطبيعة الثابتة المسالمة لهذا الشعب. لقد نسينا جميعا أن العلاقة بين أي طرفين في العالم، وهي هنا النظام والشعب، هي علاقة هات وخذ ( علاقة جدلية بلغة المثقفين)، فلا شيء يبقي علي حاله، ولذا فإن سياسة «إضرب المربوط يخاف السايب» وإذا اقتضي الأمر اضربهما معاً، ولئن لم يجدِ الضرب فالحل يكمن في مزيدٍ من الضرب وبالصرم القديمة... تلك سياسةٌ نابعةٌ من مسلماتٍ ميتةٍ فات وقتها عن رضوخ الناس ونسيانهم وكراهيتهم للعنف...و ها هم يفاجئوننا، إذ تحت قناع التسليم والبلادة الذي أجبرهم عليه القمع الخرافي والعجز وانغلاق أفق العمل السياسي المنظم بخصاء الأحزاب، يفور بركان من الغضب؛ ها هم يتماهون مع القاتل، مع كل من يمسك سلاحاً ليقتل منتقماً ومنفثاً عن غله وغلهم...و لعلهم جميعاً يتحينون ويتنسمون الفرصة لفعل ذلك إذا أمنوا العاقبة... أكتب هنا محذراً من هذا البارود الذي ينتظر أتفه عود ثقاب...الناس فاض بها، وإنها لمعبأةٌ محشوة تنتظر شيئاً ما ينزلها للشارع في حريقٍ فوضويٍ وحده الله يعلم أين سيقف ومن سيأكل...فمن لا يري النار تحت رماد وركام البلادة كمن لا يري من الغربال: أعمي! ملحوظة: تحية حارة لشباب 6 أبريل الرائعين...