دعونا نرى الأمور كما هى على أرض الواقع، إذ أصبح الخيار فى الشارع المصرى الآن منقسماً إلى تيارين، الأول قوامه الإسلاميون الساعون إلى إعادة مصر لحاضنتها الإسلامية على صعيد الحكم وإدارة البلاد، التيار الثانى تتصدره الكنيسة على مختلف مذاهبها مدعومة بالقوى العلمانية، والثابت أن أصحاب التيار الأول يمتلكون الشرعية التاريخية والشعبية، والشرعية التاريخية تعنى ببساطة أن الأصل فى إدارة البلاد هو الخيار الإسلامى منذ أن فتح عمرو بن العاص مصر ونقلها بشكل كامل من مرحلة إلى أخرى أخص صفاتها الديمومة إلى قيام الساعة. كان دخولنا نحن المصريين المسيحيين فى دين الإسلام، إقراراً بهذه الحقيقة لتقوم الدولة على الشرعية الشعبية والقانونية حتى مجىء محمد على حيث بدأت الهوية الإسلامية فى التآكل التدريجى، وقد سعت الكنيسة مع مطلع السبعينيات منذ مجىء البابا شنودة إلى اقتحام تلك الدائرة التى نضجت عبر مراحل منذ أن دشنها محمد على وعززها الاحتلال البريطانى وأكدها الطرح الاشتراكى مع اندلاع ثورة الثالث والعشرين من يوليو ثم التبعية شبه الكاملة للغرب إلى وقت سقوط نظام حسنى مبارك، وإذا كانت الكنيسة تعبر عن رفض الهوية الإسلامية للدولة منطلقة من منظور مسيحى، فإن القوى الخارجة من عباءة ثورة يوليو وتلك المنتمية للمنظومة التربوية والتعليمية البريطانية وقت الاحتلال وبمختلف فروعها تعبر أيضاً عن رفض الهوية الإسلامية للدولة المصرية، هذا الالتقاء الموضوعى لا يمكن بحال إخفاؤه ونحن نرى وحدة الصف والمواقف بين البابا تواضروس وبين بقية القوى العلمانية. وتقضى الأمانة العلمية التذكير بأن العلمانية التى تتشح بها كل أطياف هذا المعسكر الرافض للإسلام الذى جاء به عمرو بن العاص، إنما هى نظام مسيحى محض.. فالمسيحية التى وجدت نفسها مرتبكة متلعثمة أمام التطور الحادث فى بنية المجتمع الأوروبى اضطرت إلى الابتعاد عن قصر الحكم جراء السياسات الكارثية التى تبنتها فى حق الشعوب الأوروبية فى العصور الوسطى، ويستند هذا المشهد بمجمله إلى افتقاد المسيحية لنظام تشريعى قانونى يدير الدولة، لذا صار لزاماً عليها أن تترك الساسة للسياسيين، الأمر الذى لا يعنى المسلمين من قريب أو من بعيد. وتفاصيل المشهد الحالى تشير إلى اصطفاف يجمع هذا الشتات الفكرى مع بقايا نظام مبارك الذى يقاتل ربما معركته الأخيرة، والمثير أن رأس المال المسيحى نسبة إلى ديانة صاحبه وأقصد بذلك راعيه الأساسى نجيب ساويرس يناضل فى ذات الاتجاه تعبيراً ربما عن الكنيسة تحت مسمى الدفاع عن الوطن، ولست أدرى عن أى وطن يتحدث الرجل والأغلبية قالت كلمتها فى الانتخابات الثلاثة التى شهدتها مصر منذ قيام الثورة. الرجل كان قد أعلن فى مناسبة سابقة أنه سيترك الأعمال التجارية ويتفرغ للأعمال الخيرية، ولكن أى عمل خيرى هذا الذى ينفق فيه أكثر من عشرين مليون جنيه على حملة انتخابية ذات طابع سياسى محض للتصدى لأصحاب الهوية الإسلامية. الكنيسة من حيث الفعل والواقع ترفض أن يعلو الإسلام فى مصر لأنها ببساطة لن ترضى عنا إلا فى حالة واحدة، لكن الذى ليس من حقها، أن ترفض ما تقبل به الأغلبية، وإلا قولوا لى لماذا تحترم المواطنة المسلمة ذات الأصل الفرنسى تشريع الأغلبية الفرنسية وتضطر إلى الانقطاع عن الدراسة لأن قانوناً صدر يمنع تغطية الشعر داخل المدارس، فما تقرره الأغلبية لا تملك الأقلية أن تنتهكه قانوناً، وترى الكنيسة أنه ليس من الحكمة أن تتحرك منفردة ضد الهوية الإسلامية لمصر، لذا تلجأ عادة إلى الغطاء العلمانى الأوسع الذى يشمل العديد من أصحاب الديانة الإسلامية، والملفت أن أسماءً رنانة فى محيط العلمانية المصرية تمارس على مستوى السلوك الشخصى انتهاكاً لتعاليم الدين الإسلامى مما يكسبها مبرراً أصيلاً لرفض الهوية الإسلامية ومتطلباتها. إن الرفض الذى تسوقه الكنيسة وهى تتصدى لطرح الإخوان المسلمين بالذات، إنما يعكس فى واقع الأمر رفضاً أوسع وأشمل للإسلام، ولا يعنى ذلك أن الإخوان هم الإسلام والإسلام هو الإخوان، على العكس من ذلك فإن محاولة حصر الإسلام فى الإخوان وهم بالتأكيد فصيل إسلامى واسع الانتشار إنما يسهل من مهمة مهاجمة الإسلام فى شخص الإخوان، فلو جاء أى فصيل إسلامى آخر إلى صدارة المشهد، سيبقى حال الرفض الكنسى العلمانى على حاله، إذ أن مدار الأمر هو الهوية الإسلامية لمصر ومتطلباتها من تشريعات وأحكام على أرض الواقع، والكنيسة تراهن طيلة الأربعين عاماً الأخيرة على حسم قضية الهوية ساعية إلى حشر الإسلام داخل جدران المسجد الأربعة وإبعاده عن الحياة العامة للمصريين لندفع نحن الأغلبية ثمن افتقاد المسيحية لنظام تشريعى متكامل. أما المتحالفون مع الكنيسة فيبدو أنهم لم يدركوا بعد أن هوية أى دولة هى هوية الأغلبية سواء على خلفية دينية أو علمانية، لأنه لا توجد دولة فى العالم على حد علمى ليس بها أقلية دينية سوى السعودية والفاتيكان وهوية كل منهما معروفة، أما بقية دول العالم فالهوية فيها تنسب للأغلبية التى تكتسب شرعية آلية قوامها المزاج العام الذى حدا بالشعب السويسرى على سبيل المثال إلى اللجوء للاستفتاء ورفض بناء المآذن رغم خلو الدستور والقانون من هذا الرفض، ولتأكيد هذه الحقيقة التى يعززها منطق طبيعة الأشياء يعرف الجميع أن فرنسا التى قننت النظام العلمانى وصدرته للعالم هى فى وجه من الوجوه دولة مسيحية بل أكثر من ذلك تفصيلاً دولة كاثوليكية، فلو جاء أى أحد وقال إن فرنسا ليست بلد كاثوليكية لجاءت الإجابة فوراً وبدون تردد "أخطأت ياسيدى.. إن فرنسا بلد كاثوليكى".