ربما كان واجبا علينا قبل الانتهاء من الحملة الانتخابية على الرئاسة في مصر، أن نتأمل الحجة القائلة بعدم وجود ترتيب حوار على التلفزيون بين المرشحين لهذا المنصب، وبالذات عدم الاعتداد بالحجة القائلة بأن الدول الديمقراطية المتمدينة، مثل فرنسا أو الولاياتالمتحدةالأمريكية، إنما تنتهج هذا النهج، وعلينا إثبات قدرتنا على حذو حذوها في هذا المضمار. إن مصر، على حد قول المدافعين عن هذه الحجة، عانت الأمرّين من التدخل الأجنبي في عهد الاستعمار.. هل تعود الآن لدعوة الدول الكبرى للتدخل في شؤونها الداخلية مرة أخرى؟ قد لا ترى بريطانيا العظمى عيبا في أن تقيم الولاياتالمتحدة قواعد لها في أراضيها، ولكن انجلترا هي ذاتها دولة عظمى، ولا عقد لها في هذا المضمار. ثم إننا في عصر “عولمة”.. وتزداد الشواهد على الاعتماد المتبادل بين الدول.. أما مصر، فمازالت تعاني من بعض ما ورثته من العصر الكولونيالي.. ومازالت هناك حساسية قلت أم كثرت في هذا الصدد.. فإن ما تحرص عليه مصر هو تأكيد أن مكاسب الاستقلال والسيادة الوطنية ليست عوارض.. ولا هي مجرد شكليات ورسميات لإسكات أي صوت معارض، ولإلهاء أي متحفظ. منطق عليه مآخذ غير أن هناك من عليه مآخذ على مثل هذا المنطق.. فليس من شك في أن الرئيس مبارك كثير الحضور في الحياة السياسية.. وأن عموم المصريين متاحة لهم معرفة رأيه إزاء أية مشكلة قد تثار.. ولكن المنشود هو إعمال المشاركة لا مجرد الإحاطة علما بما يجري.. هو تنشيط الأخذ والرد، فهذا صلب الديمقراطية.. ولا تستقيم هذه الأخيرة بدون إسهاب إيجابي من كل المواطنين، على اختلاف مواقعهم وعقائدهم. ومن هنا أهمية الحوار وجها لوجه.. فإن القضية “شكل سلوك” قبل أن تكون “مبادلة معلومات”، القضية إشعار المواطن بأنه مشارك في صنع القرار.. وأن لرأيه وزنا، ومتاح له التعبير عنه، وتوقع أن يكون موضع اعتبار.. إن الديمقراطية آلية لا تستقيم ما لم تشمل المجتمع بأسره.. ومن هنا أهمية أن يكون القرار عملا جماعيا، ونتاج مقارعة الرأي بالرأي، وألا يصادر رأي ابتداء، بما في ذلك رأي القائل بأن هناك آراء تتعين معارضتها. من الأهمية بمكان أن تكون لكل المرشحين فرص متساوية في الحملة الانتخابية.. ومن الشواهد في هذا الصدد ألا يكون حزب متميزا عن غيره في الحقوق والواجبات.. فكيف الحديث عن تعادل لو كان حزب يتميز عن غيره من الأحزاب؟ إن الحزب الحاكم لا يملك أن يتميز عن غيره، وبالذات طوال مرحلة الحملة الانتخابية. هناك ربما مشكلة في فصل حقوق وواجبات المرشح للرئاسة عن بقية المرشحين للرئاسة، البعاد كل البعد عن زمام الحكم.. ربما مشكلة في أن جهاز الدولة يتعذر عليه أن يكون موضوعيا تماما، وحياديا على طول الخط.. فكيف معالجة هذه المعضلة؟ الجدير بلفت النظر هو أن الجوانب الإجرائية من الممكن الالتفات إليها ومعالجتها، ومن الممكن التقدم بحلول لها لو توافرت الإرادة السياسية لبلوغ هذا الهدف. ليس المستحيل فصل جهاز الدولة عن الجهاز المشرف على الانتخابات.. ليس مستحيلا الاطمئنان إلى أن القضاء هو المشرف بالكامل على العملية الانتخابية.. ليس من المستحيل تشكيل حكومة محايدة من عناصر مستقلة لتولي العملية الانتخابية.. هذه كلها من الممكنات، وبحاجة فقط إلى قرار سياسي. منطق معكوس والحقيقة أن ما يجري تنفيذه الآن هو دمج الحزب الحاكم في جهاز الدولة، لا فصل الحزب الحاكم عن جهاز الدولة فصلا لا تشوبه شائبة.. وهذا أمر بحاجة إلى نظرة تأملية فاحصة.. فإما الحكومة هي حكومة الحزب، وإما الحزب هو حزب الحكومة.. فماذا عن المصريين والمصريات الذين لا تتمثل مصريتهم في الحزب الحاكم، ولا في الحكومة الحاكمة؟ أين مساواة المصريين، إعمالا للدستور؟ لقد أردنا بالانتخابات دعم كيان مصر الشرعي بإحلال الشرعية الدستورية محل الشرعية الثورية.. وها قد فقدنا الشرعية الثورية دون إحلال الشرعية الدستورية محلها! لقد أردنا زيادة توحيد المصريين، وها قد زدناهم تفرقا.. فمنهم الحزبيون، ومنهم الذين لا ينتمون إلى أحزاب.. وهناك داخل المنتمين إلى أحزاب، المنتمون إلى الحزب الحاكم، والمنتمون إلى أحزاب المعارضة.. ومنهم المنضمون إلى حزبية غير شرعية، في ظرف تفشى فيه الإرهاب وبلغ أبعادا خطيرة. وفي الختام.. ولو كان لي أن أبدي رأيا شخصيا، فإني أرى أن الأفضل هو أن يكون رئيس الدولة فوق الحياة الحزبية، وليس جزءا منها، وهكذا يتعامل مع جميع المصريين، لا معاملة الند وحسب، بل أيضا معاملة تنطوي على مساواة. وهنا يستقيم أن يكون رئيس الدولة هو بالفعل رئيس كل المصريين، وليس أقرب إلى فريق منه إلى فرق أخرى.. ولا يكون هو مشجعا لتنافسات مصدرها القرب أو البعد من سلطات الرئاسة.. من الممكن بهذا المنطق إرساء أساس لجهاز يشرف على عملية الاقتراع، ويتسم بصفة أنه يتخذ موقفا حياديا لصالح المجتمع ككل لا لطرف بعينه فيه. صحيح أنه يتعذر على أي فرد أن يتبنى موقفا حياديا مطلقا، ولكن الحرص على البقاء بعيدا عن كل أوجه الضغط الواردة، والتزام قواعد الديمقراطية بشكل صارم دون محاباة، من الأمور الكفيلة بأن تكون نقطة بداية ملائمة للإصلاح والتجديد المنشودين._ ------ صحيفة الخليج الاماراتية في 1 -9 -2005