حين ننظر إلى المدنية الأمريكية أو الغربية بصفة عامة نجدها قد قامت مستندة إلى الجهود العقلية والتجريبية لبضعة مئات من البشر الموهوبين.. إنهم العلماء.. حيث تمكنت نظم التعليم لديهم من اكتشافهم صغارًا، ثم عملت على تطوير قدراتهم العقلية الاستثنائية.. وعندما شبوا التحقوا بالجامعات والمراكز البحثية، ومع توافر التمويل الجيد توالت اكتشافاتهم العلمية: الطبيعية والإنسانية.. العملية والنظرية.. وتلقفت دوائر الصناعة والخدمات تلك الثروة المعلوماتية المكتشفة وترجمتها لمنتجات غزت بها الكوكب الأرضى بأكمله.. فكانت الوفرة والرخاء الاقتصادى.. وتلك هى قصة النهضة فى جانبها الاقتصادى لمن لا يعلم! تقدم المجتمع إذًا مرهون بقدرته على رعاية الموهوبين من أبنائه وتطوير ودعم قدراتهم الاستثنائية، تلك حقيقة لا مجال للجدال حولها.. وإن كانت حقيقة أخرى تؤكد أن غير الموهوبين يمكن باستراتيجيات تربوية معينة وفى زمن أطول أن يحققوا ذات المهام التى ينجزها الفائقون والموهوبون.. فإن أخذ عامل الزمن وحده فى الاعتبار كفيل بدفع المجتمع الباحث عن التقدم والنهضة إلى التركيز على الموهوبين من أبنائه؛ ففى الأزمات والظروف الاستثنائية نكون بحاجة لعقول استثنائية تسابق الزمن وصولاً للحل الملائم فى الزمن المناسب. إن لغة الأرقام لا تكذب، فرغم وصول ميزانية التربية والتعليم لمبلغ 50 مليار جنيه تقريبًا للعام 2012 – 2013.. إلا أن هذا الرقم يذهب منه ما قيمته 41 مليارًا و88 مليون جنيه تقريبًا لأجور العاملين بالتربية والتعليم.. ويذهب منه كذلك ما تبلغ قيمته 2 مليار و250 مليون جنيه تقريبًا للهيئة العامة للأبنية التعليمية.. كما تم تخصيص 3 مليارات و600 مليون جنيه تقريبًا لشراء سلع وخدمات تعليمية.. وما قيمته250 مليون جنيه تقريبًا تم تخصيصهم لجهات ومراكز بحثية ومراكز تعليمية تابعة للوزارة.. والمبلغ المتبقى يتم توزيعه على ما تسميه الوزارة بنود مصروفات أخرى ومنح ومزايا اجتماعية!! وإذا علمنا أن أعداد الطلاب فى مراحل التعليم العام بالمدارس الحكومية فقط هو 16 مليون طالب تقريبًا للعام الدراسى2011- 2012.. يتضح أن نصيب الطالب بالمدارس الحكومية من السلع والخدمات التعليمية يصل إلى 222 جنيهًا سنويًا!!.. فهل هذا الرقم الهزيل المخصص لكل طالب يكفى لتطوير قدراته العقلية والروحية والبدنية؟.. هل يفى بحجرات دراسية تليق بآدميته؟.. هل يفى بمعامل للعلوم يتعلم فيها البحث والتجريب والاكتشاف؟.. هل يفى بأنشطة يتعلم من خلالها القيم والحريات والعمل التعاونى وإدارة الأزمات وحل الصراعات ومهارات التفاوض؟. إن مجتمع الطلاب لا يخلو من الموهوبين ذوى القدرات الاستثنائية فى جميع المجالات، وهم الكنز الاستراتيجى الحقيقى لمصر ولأى مجتمع، لكن العقبة هى أننا نتركهم فى ذات الوسط التعليمى الفقير غير الملائم لقدراتهم.. فهم يتعلمون نفس المقررات فى نفس الحجرات الدراسية وبنفس الطريقة التدريسية فى نفس الزمن على يد نفس المعلم الذى يكون فى كثير من الأحيان هم أذكى منه وأعلى قدرة!! وحين نأخذ فى الاعتبار ما نسبته 5% من الطلاب يكونوا موهوبين حسب منحنى التوزيع الاعتدالى، أى ما يعادل900 ألف طالب حاليًا.. يصبح وزير التربية والمسئولون عن مستقبل هذا المجتمع الحالمين بالنهضة والتقدم دون خطة أو رؤية واضحة حتى الآن مطالبين بالكشف عن هؤلاء الموهوبين.. وعزلهم عن المنظومة المريضة لمدارس التعليم العام.. وتربيتهم فى مدارس خاصة تنشأ لهم يكون البحث والتجريب والاكتشاف عناصر أساسية بها؛ بغية تطوير قدراتهم الاستثنائية وصقلها.. فهم من سيعول عليهم مستقبلاً لتحقيق النهضة فى جميع المجالات. وفى ضوء ما نعانيه من أزمات، ومن ضعف اقتصادى ينعكس على تمويل التعليم، فلا مجال لسفسطة هؤلاء الذين يقولون: "بأن عزل المتفوقين فى مدارس خاصة بهم يصيبهم بالغرور، ويصيب العاديين من الطلاب بالإحباط فى المدارس الأخرى".. أقول تلك سفسطة ونطاعة فكرية لا تستقيم وحالة التردى الذى نعيشه، نطاعة يتم التغلب عليها برسالة إعلامية للمجتمع بأسره مفادها: أن الموهبة هبة الله لبعض عباده، وأننا رغم تفاوتنا فى الموهبة إلا أننا متساوون فى القيمة الإنسانية.. وأن لكل دوره الذى يستطيع القيام به. [email protected]