تتردد كلمتا التفوق والموهبة علي السنة الكثيرين, ويتساءل البعض هل يعني ذلك أن بعض الأطفال أقل قيمة وأهمية من البعض الآخر؟ ويتساءل البعض الآخر أليس كل طفل موهوبا ومتفوقا في جانب معين؟ تساؤلات كثيرة تثور في الأذهان, وتتطلب منا نظرة فاحصة مدققة وعميقة. هنا لابد لنا أن نتفق علي مسلمة مفادها: إن تحديد تلميذ ما باعتباره تلميذا متفوقا لا يعني أنه كإنسان ذو قيمة أفضل وأرقي من التلاميذ الآخرين, كما أن اختيار تلميذ ما كتلميذ من أصحاب الاحتياجات الخاصة لا يعني أنه أقل قيمة أو أدني منزلة من التلاميذ الآخرين. إن اكتشاف أن أحد التلاميذ لديه قدرات فائقة تختلف عن قدرات غالبية أقرانه يعني ببساطة أن لهذا التلميذ احتياجات مختلفة ينبغي علينا الوفاء بها كنوع من الالتزام الأدبي والأخلاقي في المحل الأول. يختلط الأمر علي الكثيرين عند التفرقة بين القدرات الفائقة, ونقاط القوة والتميز, فلكل إنسان نقاط قوة تميزه عن غيره, أما القدرات الفائقة فهي تنم عن تفوق بدني مهاري أو عقلي أو إبداعي يتجاوز القدرات المتعارف عليها في سن عمرية معينة. وقد ظلت النظرة السائدة في أدبيات علم النفس حتي منتصف الثمانينات من القرن العشرين تطابق بين التفوق الدراسي وبين التفوق العقلي, متجاهلة حقيقة أن بعض الأفراد الموهوبين والمتفوقين قد يتعثرون في تحصيلهم الدراسي. ولتجاوز تلك الإشكالية قام عالم النفس الكندي جاجنيهGagne بوضع نموذج للتفوق يعتمد علي التمييز بين مفهومي التفوق والموهبة في أوائل القرن الحادي والعشرين. ويري جاجنيه أن التفوق هو امتلاك الفرد لقدرات أو استعدادات تتجاوز المتعارف عليه في هذا العمر الزمني في أي مجال من مجالات القدرات البشرية سواء كانت معرفية, أو إبداعية, أو اجتماعية/ وجدانية, أو بدنية/ مهارية. ويعتقد جاجنيه أن ما بين10% الي15% من التلاميذ يتمتعون بقدرات عقلية فائقة, وأن ما بين10% الي15% من التلاميذ يتمتعون بمهارات بدنية فائقة. وفي حين ينظر جاجنيه الي التفوق باعتباره وجود قدرات فائقة, فإنه يعتبر الموهبة مساوية للتفوق في التحصيل الدراسي والإنجاز. ويعرف جاجنيه الموهبة علي أنها تمثل الأداء أو الإنجاز الذي يفوق ما هو متوقع في عمر زمني معين. ويشير العديد من علماء النفس وأساتذة علم الإجتماع الي أن العوامل الشخصية والبيئية المحيطة بالتلاميذ تلعب دورا محوريا في تحويل تلك القدرات والاستعدادات الكامنة الي إنجازات ملموسة وواضحة للعيان. وبالتالي فإن الوسط المحيط بالطفل, والأشخاص المتعاملين معه, ونوعية التعليم, وطبيعة المجتمع المحلي قد تساهم في تنمية قدرات واستعدادات أطفالنا, وقد تكبت وتحبط وتقتل تلك القدرات. وتلعب العوامل الاقتصادية مثل دخل الأسرة, والتعليمية مثل مستوي تعليم الوالدين دورا مهما في اكتشاف ورعاية قدرات المتفوقين والموهوبين. ويؤدي احتكاك الأطفال الموهوبين بالأفراد المتميزين من أصحاب الإنجازات, والمعلمين أصحاب المعرفة العميقة والمؤمنين بأهمية رسالتهم الي شحذ همم الأطفال المتفوقين, والي تشجيعهم علي صقل تلك القدرات. كما تلعب المدرسة دورا محوريا في رعاية أو وأد القدرات المتميزة والفائقة لأبنائنا, حيث يساهم كل من المناخ العام, والقيم السائدة في المدارس, وبرامج الرعاية والتوجيه بها في تحفيز التلاميذ علي تنمية مواهبهم, وتحسين قدراتهم, وبناء شخصياتهم بصورة متوازنة. ومن ثم فإن علي المدرسة والمجتمع أن يسعيا الي مساعدة التلاميذ علي تحويل قدراتهم واستعداداتهم الكامنة الي إنجازات محسوسة, إن علي المدارس أن تقدم فرصا متنوعة لأطفالنا الموهوبين لكي يكتشفوا استعداداتهم الكامنة, كما أن علي المعلمين مسئولية كبيرة في تنمية عادات الصبر والمثابرة, وشحذ مستويات الدافعية والإصرار والإرادة لدي أبنائنا بصورة تحول تلك الاستعدادات الي إنجازات واضحة وجلية. ويتطلب تحقيق تلك الأهداف النبيلة توفير برامج إعداد متميزة للمعلمين في كليات التربية تؤهل المعلمين لتحمل مسئولية كيفية انتقاء واكتشاف المتفوقين. وينبغي علي تلك البرامج أن تعد المعلمين للقيام بمجموعة من الأدوار مثل: تدعيم الشراكة بين المدرسة والأسرة بهدف رعاية وتوجيه الموهوبين, التنسيق بين المدرسة والمجتمع المحلي بهدف خلق فرص لرعاية المتفوقين والموهوبين, صياغة برامج لرعاية المتفوقين والموهوبين, تقديم مقررات إثرائية متقدمة للمتفوقين في مواد دراسية بعينها, واستخدام طرق التدريس المختلفة التي تلائم الاحتياجات المتنوعة للتلاميذ المتفوقين. إن لكليات التربية دورا مهما في إمداد المعلمين برصيد كبير ومتنوع من استراتيجيات التدريس التي تتلاءم مع الاحتياجات المختلفة للموهوبين والمتفوقين بحيث يمكنهم الاختيار من بين تلك الاستراتيجيات بيسر وسهولة, وبصورة تمكنهم من توفير بيئات تعليمية تتحدي قدرات المتفوقين, وتنمي إحساسهم بالثقة بالذات. وليس هذا فحسب بل إن علي المعلمين اكتساب المهارات والمعارف التي تمكنهم من تنمية مهارات التفكير النقدي, والتفكير الإبداعي, ومهارات حل المشكلات لدي التلاميذ الموهوبين, ومهارات تطبيق مستويات التفكير العليا, ونماذج التفكير التحليلي علي محتويات المناهج الدراسية للوفاء باحتياجات الأفراد المتفوقين عقليا. وعلي الرغم من أهمية دور كليات التربية في إعداد المعلمين بصفة عامة, ومعلمي الموهوبين بصفة خاصة, فإنه يلاحظ وجود العديد من أوجه القصور في البرامج الدراسية لتلك الكليات. ومن بين أوجه القصور هذه عدم وجود مقررات دراسية تدرس في مرحلة البكالوريوس توجه المعلمين لكيفية التعامل مع الموهوبين والمتفوقين بصورة ناجحة. ويتطلب التغلب علي هذا الخلل البدء في حوار علمي رصين بهدف تطوير برامج الدراسة, ومحتويات المناهج الدراسية, وأساليب التقويم في كليات التربية حتي يتسني لهذه الكليات إعداد معلمين علي مستوي عال من الجودة والكفاءة في رعاية أغلي ما تمتلكه بلادنا, ألا وهو الإنسان.