كنت قبل عدة أيام أتابع النشرة الاقتصادية في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، وكان الحديث يدور حول اعتزام مصر تخفيض سعر الفائدة في مصارفها، وكانت الإذاعة تستضيف لهذا الغرض احد الخبراء الذي حاول أن يشرح لنا أهمية هذا القرار بالنسبة للحكومة المصرية، فقد قال إن تخفيض سعر الفائدة سيؤدي بالضرورة إلي تخفيض خدمة الديون التي تأخذها الدولة من المصارف التجارية وسوف يساعد ذلك علي تخفيض مديونية الحكومة وتحسين ميزانيتها العامة. ويفهم من ذلك بالطبع أنه إذا تحسنت الميزانية العامة فإن ذلك سوف يصب رخاء علي المواطنين ولا شك أن الجمهور الذي لا يعرف الكثير من أسرار الاقتصاد سوف يصدق هذا الكلام كما يصدق كثيرا من الوعود التي تقدم له دون أن يعرف أنه سمع نصف الحقيقة فقط، لان المسألة لها وجه آخر والسؤال المهم في هذه القضية هو لماذا تلجأ الحكومة إلي الاقتراض من المصارف التجارية؟ والإجابة ببساطة لأنها تحتاج إلي المال إما لتنفيذ مشروعات حقيقية وإما لتغطية العجز الذي سببه سوء الإدارة وعدم الكفاءة. وكما نعلم فإن المصارف التجارية تعتمد في الأساس علي أموال القطاع الخاص وأفراد الشعب العاديين وبالتالي فإن تخفيض سعر الفائدة إذا كان يفيد الحكومة فهو يلحق افدح الأضرار بالقطاع الخاص لان ربح الحكومة بعد تخفيض سعر الفائدة معناه خسارة للقطاع الخاص الذي هو في معظم بلاد العالم أكثر كفاءة من القطاع الحكومي. ولا نهدف بما قلناه أن نقول إن الحكومات لا يحق لها أن تخفض أو تزيد سعر الفائدة لأن ذلك يحدث في البلاد المتقدمة بأساليب متطورة ذلك أن الذي توكل له مهمة التحكم في سعر الفائدة هو المصرف المركزي الذي لا يتخذ القرارات بصور عشوائية لمجرد أنه يريد أن يفيد طرفا علي حساب الأطراف الأخري بل يتخذ القرارات لتأكيد المصلحة العامة وفق قوانين العرض والطلب. ونسوق لذلك ما يحدث في بريطانيا من وقت لآخر، فعندما ينخفض سعر الفائدة فإن معظم الناس يلجأون إلي البنوك للاقتراض من أجل شراء المنازل وغيرها، وهذا يعني بصورة تلقائية زيادة الطلب عن العرض في بعض المجالات ما يعني حدوث تضخم تدريجي في بعض قطاعات الاقتصاد، وذلك ما يدفع الحكومة عن طريق آلية المصرف المركزي إلي زيادة سعر الفائدة حتي يحدث التوازن بين العرض والطلب ولكن مثل هذه الآلية غير متوافرة في بلد كمصر أو في أي بلد عربي آخر لأن معظم القرارات الاقتصادية تتخذ بصورة عشوائية وتعتمد الحكومة في معظم الأحيان علي عدم معرفة الناس بآلية عمل الاقتصاد لتبيع لهم الهواء كما يقولون، وقد حدث هذا في مصر أكثر من مرة حيث فسر في مرة سابقة ارتفاع سعر الجنيه المصري أمام الدولار علي أنه يعكس حالة تحسن في الاقتصاد المصري دون أن يوضح المسؤولون لأفراد الجمهور أن التحسن كان بسبب انخفاض سعر الدولار وليس بسبب تحسن أداء الجنيه المصري. ذكرت ذلك لارتباطه بما يجري في مصر هذه الأيام بسبب ما يسمي بالانتخابات التعددية، والتي تحاول أن تسوق من خلالها السلطة الحاكمة للشعب أن هناك انتقالا حقيقيا من نظام شمولي إلي نظام ديمقراطي، وذلك مربط الفرس الذي يجب أن نتوقف عنده لنتساءل هل في مصر نظام ديمقراطي؟ وهل ما يجري فيها الآن مظهر من مظاهر الديمقراطية؟ وفي الواقع عندما أخص مصر بالحديث فليس لأن لدي موقفا خاصا منها أريد أن اعرضه بل لأنني أعتبر أن العالم العربي كله في مفترق طرق وأن عليه أن يغير مساره حتي يواكب ما يجري في عالم اليوم ويحقق لشعوبه ما تصبو إليه، ومصر هي من أكثر البلاد العربية تأهيلا لأن يحدث فيها التحول بسبب وجود طبقة عريضة مستنيرة في داخلها، وما لم يحدث التحول في مصر فمن المشكوك فيه أن يحدث في أي بلد عربي آخر، وذلك ما يجعلنا ننظر باهتمام لما يحدث فيها من تطورات، ولكني وبكل أسف لا أري أن مصر تسير في الطريق الصحيح ويكفي أن ننظر في صحفها الرئيسية لنجد الكتاب يحدثوننا عن إنجازات مبارك بطل العبور ومحقق الازدهار الإقتصادي، ويقللون من شأن الأحزاب الأخري ويسخرون من حضورها في الشارع بل إن الكثيرين نصبوا أنفسهم مدافعين عن وضع غير قابل للدفاع عنه علي الرغم من أن هذا الوضع يتعارض مع المصالح الوطنية والقومية العليا. ودعنا في البداية نطرح علي أنفسنا أسئلة مهمة؟ وأولها هل في مصر نظام ديمقراطي؟ وهل إذا سمح مبارك بتعددية المنافسة يكون قد حقق متطلبات الديمقراطية؟ والإجابة هنا لا تقتصر علي الوضع في مصر لأننا إذا كنا نتحدث عن الديمقراطية فينبغي أن ننظر إلي الوسائل التي تحقق بها الديمقراطية في كل مكان وعندها سنكتشف أن الأساس الذي تعتمد عليه الديمقراطية يتمثل أولا في نظام تشريعي يستطيع الشعب من خلاله أن يعبر عن إرادته في القوانين والنظم التي يريدها، ولا يستطيع هذا النظام أن يقوم دون بناء حزبي قوي، ومن جانب آخر لا يمكن أن يكون هناك ضمان لتحقيق الديمقراطية من خلال النظام التشريعي والحزبي دون أن يكون ثمة نظام قضائي عادل ومستقل وقادر علي أن يبسط نفوذه علي جميع الإطراف، وبعد ذلك يجب أن تكون هناك سلطة تنفيذية تمثل إرادة الشعب وتخضع لرقابة الهيئتين التشريعية والقضائية. فهل هناك في مصر هذه المستلزمات الضرورية لإقامة نظام ديمقراطي؟ الإجابة بكل تأكيد لا، لأن مصر منذ ثورة يوليو عام 1952 وهي تخضع لحكم شمولي لا يقيم اعتبارا للطرف الآخر ويحقق ما يريده من خلال جبروت الجيش والمخابرات وقوي الأمن، وكل من يقف أمام هذه القوي الباطشة فهو عدو للوطن وللنظام، وبالتالي لم يتح النظام لأي صوت آخر أن يرتفع غير صوته وأصبحت الأحزاب التاريخية مثل حزب الوفد مجرد واجهات من غير مضمون حقيقي لأنه لا يحق لها أن تعمل وتنافس الحزب الوطني الذي لا وجود حقيقيا له في الشارع المصري ووجوده مرتبط إلي حد كبير بالسلطة التي تغذيه وتمنحه كل الوسائل التي يقدر بها علي السيطرة والتحكم في مقدرات البلاد. وقد يقول قائل ولماذا لا نعتبر الخطوة التي قام بها حسني مبارك خطوة في الاتجاه الصحيح؟ وكان يمكن أن نقبل ذلك لو أن حسني مبارك لم يكن طرفا في اللعبة التي بدأها اي لو ترك لغيره حلبة السباق ولكن الذي فعله حسني مبارك هو أنه تحكم في أصول اللعبة بشكل كامل من أجل إعادة انتخابه ليعلن بعد ذلك أنه ليس وريث ثورة يوليو وأنه منتخب بطريقة حرة واختياره جاء عن طريق إرادة الشعب، وذلك هو الخطأ الذي ارتكبته المعارضة المصرية التي وافقت أن تخوض الانتخابات أمام حسني مبارك وهي تعلم أنه ليس أمامها أي فرصة للنجاح وليس ذلك بسبب شعبية حسني مبارك الطاغية بل لأن حسني مبارك لعب اللعبة بمهارة وجعل الجميع يدخلون إلي حلبة منافسته بشروطه دون أن تكون أمامهم فرصة للفوز، وكان علي المعارضة المصرية أن تتساءل أولا عن مشروعية تولي حسني مبارك السلطة علي مدي أربعة وعشرين عاما دون أن يكون رئيس حزب شعبي أو زعيما وطنيا مشهودا له لأن مجيء حسني مبارك كان بسبب وراثته لوارث ثورة الثالث والعشرين من يوليو وليس ذلك سببا كافيا للاستمرار في الحكم خاصة وأنه كان يستخدم أسلوب الاستفتاء للتجديد له وتمكن بذلك من تدعيم سلطته التي لا يستطيع أي فرد عادي أن ينازعها دون أن يتلقي عقابا علي موقفه. وإذا كان ذلك حال حسني مبارك، فقد كان من الضروري أن يرفض الشعب فكرة تعديل الدستور لأنه لم يكن هناك في مصر دستور أساسا حتي يعدل، وكان من الضروري أن يدرك الناس أنه في ظل غياب القانون فلا مشروعية لأي عمل سياسي في مجال تسلم سلطة الحكم، وقد لحظنا في الأيام الماضية كيف ارتفعت الأصوات تعلي من شأن القضاء المصري وذلك أمر تريده الحكومة ولكن حينما أمر القضاء بأن تشارك مؤسسات المجتمع المدني في لجان الانتخابات قالت اللجنة المشرفة إنها لن تطبق أمر القضاء الإداري، وطرح ذلك في واقع الأمر قضية مهمة، فهل هناك سلطة تعلو فوق سلطة القانون، وإذا كان هناك من يقررون علنا أنهم لن يطبقوا القانون فمعني ذلك أن كل ما يقال عن نزاهة لجان الانتخابات وحكم القانون هو عبث لا وجود له في عالم الواقع.. وفي النهاية المسألة لا تتعلق بالإجراءات فقط ولا بالكيفية التي يعود بها حسني مبارك إلي الحكم، بل بالحالة العقلية التي تسيطر علي الكثيرين بأن ما جري في مصر هو تحول ديمقراطي حقيقي مع أن ما جري هو فقط تمكن النظام من تقنين وضعه إرضاء للمطالب الخارجية وتبريرا لوضع لا يمكن تبريره، ولا شك أن الرئيس الذي وعد الناس ببناء المصانع وتوزيع المدارس لن يفعل شيئا مما وعد به لأنه وعد بأشياء لا يملكها، والمسألة كلها كلام في كلام والرئيس غير مشغول بشيء غير النخبة الحاكمة والبحث عن وسائل من أجل توريث ابنه، وكان من الفصول المضحكة أن أعلن وزير خارجية إسرائيل أن الرئيس مبارك يعتزم زيارة إسرائيل في نهاية هذا العام، والتساؤل هو هل من مصلحة مبارك أن يطلق له وزير الخارجية الاسرائيلي مثل هذا التصريح في مثل هذا الوقت ؟ والإجابة بكل بساطة هي أن وزير الخارجية الإسرائيلي أتاح للرئيس المصري فرصة أن ينفي تصريحات شالوم حتي يبدو بطلا أمام الناخبين المصريين، وذلك بيت القصيد في مثل تلك التصريحات. ومؤدي قولنا هو أن ما تحتاجه مصر في هذه المرحلة ليس رئيسا يتظاهر بالتوجهات الديمقراطية بل تحتاج إلي تغيير سياسي شامل لا يفصل لكي يعيد مبارك إلي السلطة بل ليضع الشعب المصري كله في مجال الريادة كما تريده الأمة العربية دائما. -------- صحيفة القدس العربي اللندنية في 8 -9 -2005