من محاسن الصُدف فيما جري في مصر يوم السابع من سبتمبر، أنني وجدت نفسي منتميا للأغلبية، ولست من الأقلية، حيث كنت من ال 26 مليون مصري، الذين وسعتهم بيوتهم في هذا اليوم، ولم أكن من السبعة ملايين الذين ذهبوا الي صناديق الاقتراع، وشاركوا في أول انتخابات رئاسية تعددية لم تشهدها البلاد، حتي في أيام خوفو، وخفرع، ومنقرع!. لم يكن الدافع وراء عدم مشاركتي في هذا ( المولد) هو عدم إيماني بجدية العملية الانتخابية، شأن كثيرين من العازفين عن المشاركة، فأنا ممن يرون ان تقاعس الناس عن الذهاب الي صناديق الانتخاب، هو ما يمكن جهة الإدارة من العبث بإرادتهم. فالسبب وراء عدم قيامي بمهمة الإدلاء بصوتي يرجع الي أنني ممن أطلق عليهم في هذه الانتخابات ( الوافدين)، وهم الذين وفدوا الي محافظات غير محافظاتهم وكانوا بها في يوم الانتخاب المبارك، وقد تم استحداث لجان خصيصا لأمثالنا، ومن خلالها تمكن الحزب الحاكم من الزج بكثيرين ليصوتوا للرئيس مبارك، بينما كانت الضوابط الصارمة في مواجهة الذين لم تحملهم شاحنات هذا الحزب!. فعلي الرغم من أنني أعيش في القاهرة منذ أكثر من عشرين عاما، وعلي الرغم من ان جحا سئل مرة عن بلده، فقال بأنها التي تعيش فيها زوجته، إلا أنني لم أغير محل الإقامة في السجلات الرسمية حتي الآن، فلا تزال أوراقي الشخصية تؤكد أنني أقيم في مدينة جهينة، التابعة لمحافظة سوهاج، ربما لأنني - وعلي الرغم من كل هذه السنين - لا أشعر بألفة بيني وبين القاهرة، وربما لأنه نوع من الولاء لبلاد نزحنا منها، وهذا أمر شرحه يطول، وقد أسعدني ضابط بمصلحة الجوازات التابع لها محل إقامتي، بمعلومة كنت أجهلها، تتلخص في ان جمال عبد الناصر، عاش ومات، ومحل إقامته في أوراقه الرسمية هو بني مر، بمحافظة أسيوط. فقد اختصر حضرة الضابط إجابتي علي سؤال من مرافق لي - عندما اضطررت الي السفر لتجديد جواز سفري - عن الحكمة وراء الإبقاء علي محل الإقامة، علي نحو يسبب لي وجع دماغ كلما احتجت ان استخرج ورقة رسمية!. أخيرا، وجدت أن بيني وبين عبد الناصر مشتركا يستحق الذكر، وأنا الذي بذلت محاولات مضنية من أجل أن أحبه، فباءت محاولاتي بالفشل الذريع، فعلي الرغم من الإنجازات الكبري التي تمت في عهده، إلا أنها تتضاءل - من وجهة نظري - حتي لا تري بالعين المجردة أمام انتهاك حقوق المصريين في عهده، واغتياله للشخصية المصرية، عندما مكن السوقة والجهلاء من أقدار الناس ورقابهم. عموما هذا موضوع آخر، فقد وضعت اللجنة المشرفة علي الانتخابات شرطا حتي يصبح من حق الوافدين أمثالنا ان يدلوا بأصواتهم، وهو أن يحملوا البطاقة الوردية، وهي بطاقة الانتخاب، وأنا لا أحوز هذه البطاقة الآن، فعندما ترشحت لانتخابات مجلس الشوري التكميلية في مسقط رأسي، في ديسمبر الماضي، كانت ضمن مسوغات الترشيح، وقد استولوا عليها ولم استردها حتي الآن، وهذا ما جعلني أحوز شرف الانتماء للأغلبية، ربما للمرة الأولي في حياتي، وقد ورد في الإثر: يثاب المرء رغم أنفه!. بدون لف أو دوران، فلو كان بمقدوري التصويت، لأعطيت صوتي لمرشح الغد الدكتور أيمن نور، لسبب مهم، وهو أنه المرشح الوحيد الجاد ضد مرشح الحزب الحاكم، ولا أنفي أن الدكتور نعمان جمعة الذي أنفق علي دعايته الانتخابية قرابة العشرة ملايين جنيه، كان جادا في الترشيح، لكن جديته كانت في مواجهة مرشح الغد، ولم تكن في مواجهة مرشح الحزب الوطني الرئيس مبارك!. لكن الله قدر ولطف، فقد حرمتني اللجنة الرئاسية من الإدلاء بصوتي، ومن شرف تلويث إصبعي في الحبر الفسفوري، الذي تحول الي نكتة من العيار الثقيل، فقد صدعوا به رؤوسنا وكأنه الضمانة الوحيدة علي النزاهة، لأنه يظل أربعاً وعشرين ساعة، مما يحول دون إدلاء المواطن الواحد بصوته أكثر من مرة، ثم تبين انه بقليل من الجهد يتحول الي أثر بعد عين، وكانوا قد وعدوا القضاة المشرفين علي اللجان بتسليمه لهم، قبل يوم من إجراء الانتخابات ليختبروه، لكن الوعد تم ( لحسه) وتم تسليمه في اللجان. لا أستطيع ان أزعم ان ما جري كان بفعل حكومة درجت علي تزوير إرادة الناس، حتي أدمنت ذلك، فالشاهد ان الحبر الفسفوري كان مغشوشا، ربما لأنه صناعة محلية، وربما لأن أحد رجال الأعمال الذين ينتمون الي الحزب الحاكم من رسي عليه العطاء واستورده من الخارج ، وهم علي استعداد لأن يسرقوا الكحل من العين، ولا يتورعوا من أكل مال النبي، والتحلية بالصحابة. مهما يكن الأمر، فلا أخفي انني سعدت عندما انتهي رئيس لجنة الانتخابات الرئاسية من إعلان النتيجة، صحيح ان مرشح الحزب الوطني السيد حسني مبارك فاز بأكثر من 88 في المائة، لكن من المعلوم ان هذا أمر كان مفروغا منه، فالتعديل النكتة علي المادة 76 من الدستور، كان يكفل انتخابات رئاسية علي المقاس، صحيح ان النسبة التي فاز بها لا يمكن هضمها بسهولة، لا سيما وان هناك من قالوا إنها لن تتجاوز ال 70 في المائة، لكن هذا ليس هو بيت القصيد، ولا أريد ان أدخل بالقاريء في دوامة التشكيك، وإلا انسحب تشكيكنا علي نسبة الحضور التي قال المراقبون انها لا تتجاوز ال 18 في المائة، في حين ان رئيس لجنة الانتخابات ارتفع بها الي أكثر من 23 في المائة، فضلا ان التشكيك سينسحب ايضا علي الأصوات التي حصل عليها المرشحون السبعة التالون لمبارك ونور ونعمان جمعة!. صحيح أنهم حصلوا علي أصوات لا قيمة لها، حيث بدأت من 4 آلاف و106 أصوات، حصل عليها رفعت العجرودي، ووصلت الي 29 ألفا و857 صوتا حصل عليها الشريف شلتوت، لكن معلوم انه ولو بالطبل البلدي فإن ما يمكن ان يحصل عليه هؤلاء لن يتجاوز المئات، ومن أناس يسعون الي إفساد أصواتهم ليس إلا، كما فعل أحد الوافدين من الأصدقاء المحامين، الذي ذهب الي احدي اللجان ودخل في حوار مع رئيس اللجنة ليمكنه من الإدلاء بصوته، وفشل لعدم حمله البطاقة الوردية، وقد كان يهدف الي انتخاب الحاج أحمد الصباحي، سخرية من المشهد برمته!. لا يمكن لأحد أن يصدق ان الصباحي يحصل علي 4 آلاف و393 صوتا، وهو رقم متواضع لا يؤهل مرشحا لعضوية المجالس البلدية، وليس لرئاسة الجمهورية، لكن من المعلوم ان الشيخ الصباحي من الذين خاضوا الانتخابات من أجل ان يحصلوا علي منحة النصف مليون جنيه، الدعم الذي دفعته الحكومة من لحم الحي لكل مرشح، لتحول به العملية الانتخابية الي مسخرة!. الصباحي قال من أول يوم ترشح فيه انه سيعطي صوته للرئيس مبارك، وأعلن بأنه لا قدر الله.. لا قدر الله (قالها مرتين او ثلاثاً) لو نجح فسوف يتنازل للرئيس مبارك، ويوم الانتخاب أعلن بعد ان أدلي بصوته، أنه اختار مبارك، موضحا ان مصر بدونه ستتعرض لكارثة.. وبعد كل هذا لا يمكن ان نصدق ان هناك 4 آلاف و393 مواطنا أعطوه أصواتهم ، اللهم إلا اذا كانت هذه الأصوات التي حصل عليها، والتي حصل عليها السبعة الآخرون، تدخل في عداد الأصوات الباطلة، والتي اقتربت من المائتي ألف صوت!. لا رغبة لدي في التشكيك في النسبة التي أعلنها رئيس اللجنة الرئاسية المشرفة علي الانتخابات، فقد سلمت بها، ومع هذا ضبطت نفسي متلبسا بالسعادة بمجرد ان تم إعلان النتيجة. مبعث سعادتي أنني شعرت ان النظام مني بهزيمة نكراء، فالهيصة والزمبليطة والهلمة، وعملية الشحن الإعلامي، لم تكن تهدف الي نجاح الرئيس مبارك، فهذا أمر ولاسباب عديدة منتهٍ، وإنما الهدف تمثل في زيادة نسبة التصويت لتتجاوز ال 50 في المائة، ومع كل هذا الشحن، وتسخير العمد والمشايخ في حث الناس علي الانتخاب، والدفع بنواب الحزب الحاكم، ومن يرغبون في الترشيح علي قوائمه في الانتخابات البرلمانية التي هي علي الأبواب، بأن يثبتوا حسن النوايا والتسابق في عملية حشد الناس للتصويت، وكذلك فتح بعض لجان الوافدين لرجال الحزب الوطني ليصوتوا بالبطاقات الشخصية فقط، وبتعليمات هاتفية من رئيس لجنة الانتخابات، و في تحويل قطاعات كبيرة في مؤسسات الدولة الي قطيع وشحن هذا القطيع الي اللجان، علي الرغم من كل هذا فإن نسبة الحضور بلغت ال 23 في المائة ممن لهم حق التصويت ويبلغون 32 مليون مواطن، وهي نسبة - مع التسليم بها - متواضعة للغاية، ولا تتسق مع حفلات الزار التي نصبت في كل مكان ابتهاجا بهذا الفتح المبين في تاريخ مصر السياسي!. وتواضع نسبة المصوتين مثل هزيمة من العيار الثقيل للسلطة الحاكمة في مصر، وكذلك الحال بالنسبة للمرتبة التي حصل عليها أيمن نور، فقد كان هدف القوم ألا يحصل علي المرتبة الثانية بأي شكل، وكان ان تم تحريض حزب الوفد علي ترشيح الدكتور نعمان جمعة ليحجز المقعد الثاني. وقد أبلي الرجل بلاء حسنا، وأنفق من مال الحزب عشرة ملايين جنيه علي دعاية كانت هي الأفضل في الشكل والمضمون، فهي أفضل من دعاية مبارك نفسه، ناهيك عن دعاية نور التي غلب عليها الارتجال، لعدم استعانته بأصحاب الخبرة في هذا المجال، فضلا عن انه إنسان تستغرقه التفاصيل، هذا ناهيك عن قلة الأموال المرصودة للحملة الانتخابية، والتي لم تتجاوز ال 800 ألف جنيه، سمعت انه لم ينفقها كلها. حزب الغد، لم يتجاوز عمره العام، وقد بدأ حياته بضربات حكومية عنيفة، تمثلت في تقديم رئيسه للمحاكمة بتهمة تزوير توكيلات تأسيسه، وتم فتح نار جهنم عليه، من خلال صحف تطبع وتحرر في أماكن لا تعلمونها الله يعلمها، وقد قامت بحملة تشويه وتشنيع، لم تشهد الحياة السياسيةلها مثيلا، وخلطت الشخصي بالعام، وشككت في اسمه ورسمه، وفي مؤهلاته العلمية، وفتشت في جيوبه، واتهمته بكل مذمة، وفي الحملة الانتخابية لم يكن رؤساء المؤسسات الصحفية الحكومية المنوط بها الحياد، يتحملون الحياد ولو الشكلي معه، فقد كانت صورته، والأصل ان تكون بجوار صورة مبارك بصفته يحمل الرقم الثاني، يتم العبث بموضعها فتارة تجدها الرابعة، وأخري تجدها الأخيرة، ولم تثبت علي حال أبدا، وتم تجاهل الكثير من مؤتمراته، وعندما كان يتم ذكر اسمه كان يحدث هذا علي مضض!. وقد أثبت الشعب المصري انه يمتلك حسا سياسيا راقيا، عندما نظر الي حملة التشهير علي انها من فعل سلطة غاشمة، فصوت ضدها، وجاء ترتيبه الثاني وكانت النتيجة استفتاء في الواقع ضد الملفقين، الذين استخدموا أسلحتهم الفتاكة في مواجهة حزب وليد، وحرضت عليه حزب هرم، ظنا منها انه سيفترسه، ولا يحيق المكر السييء إلا بأهله. أعتقد ان سعادتي بنتيجة الانتخابات لها ما يبررها. -------- صحيفة الراية القطرية في 14 -9 -2005