أيًا كان الجدل حول المنتج شبه النهائى للجمعية التأسيسية فمن الواجب تقويمه علميًا كأساتذة للقانون الدستورى، والاجتهاد فى دراسته، وإبداء بعض المقترحات للتحسين والتجويد فى الوثيقة التى لاشك اجتهد فيها زملاء وأساتذة قانون بكل ما يملكون من علم.. والهدف من هذه المشاركة هو الإضافة وليس الهدم.. والصالح فى النهاية هو صالح مصر وليس فئة ورفعة شعب، وليس سقطته. أولاً: على الرغم من أن صياغة المادة الثانية التى أثارت جدلاً كاد ألا ينتهى، احتفظ المشروع بذات الصياغة التى وردت بدستور 1971، وهى أن مبادئ الشريعة هى المصدر الرئيسى للتشريع. على أن الجمعية التأسيسية لم تكتف بذلك مع الأسف الشديد وإنما راحت بذاتها تحدد نطاق تطبيق النص فى مادة أخرى فى باب الأحكام الانتقالية الختامية بالتحديد فى نص المادة 221 التى توسع نطاق تطبيق المقصود بالمبادئ الكلية إلى قواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها فى مذاهب أهل السنة والجماعة، وهو ما يشمل قطعًا المذاهب الفقهية المختلفة بلا تعيين أو تحديد للمذهب الملهم للمشرع، ولا حتى مجال تطبيق هذا المذهب (مواريث، زواج، طلاق، وصية، قرض، ائتمان، بيع، مسئولية تقصيرية أو جنائية). وأتساءل فى مواجهة هذه النصوص إذا ما كان من الممكن فى مصر أن نتعرض لهذا الموضوع بروح الباحث القانونى أو الفنى أو العالم فى الصياغة الدستورية؟، هل من الممكن أن نتكلم عن هذه المادة دون انتماء حزبى يعمينا عن الدقة القانونية وبدون توهج دينى يستر الحقائق القانونية المحضة؟، فالمشكلة فى تقديرى ليست فقط فى الاختيار بين كلمتى "مبادئ" و"أحكام" الشريعة الإسلامية التى تشمل الفقه بوجه عام.. ولكن المشكلة هى فى تحديد مدلول القواعد الفقهية والمذاهب التى يشير لها نص المادة 221 من المشروع كمصدر محتمل للتشريع.. إن ضرورة هذا التحديد باعثها فى نظرى هو مقتضيات الصياغة التشريعية والدستورية، وآثار الصياغة المعيبة على نطاق تطبيق النص.. فالقانون لاسيما أسماه وهو الدستور، هو لفظ يفسر أو لفظ يصاغ.. ومقتضيات الصياغة السديدة تفرض علينا التحديد الدقيق لمدلولها وما ينصرف محتواها على وجه القطع واليقين وليس على وجه الظن والتقريب.. وذلك حتى يعرف المخاطبون بأحكام الدستور من سلطات عامة وأفراد، مجال تطبيق المادة ونطاق أعمالها على وجه دقيق، وهو ما يمثل ضمانة هامة ضد التعسف أو التضارب فى التفسير. إن القضاء الدستورى الحديث فى كثير من الدول الديمقراطية يفرض على المشرع احترام مبدأ "الأمان القانونى"، ومقتضى هذا المبدأ أن تعبر النصوص عن قواعد معيارية شارعة محددة الدلالة ولها من الشفافية وإمكانية الإدراك ما يحقق الأمان القانونى للأشخاص الذين تطبق عليهم هذه النصوص.. وشاهد مشهود تعتبر الدساتير الحديثة أن الأمان القانونى هو التزام بتحديد الألفاظ والمصادر التى يحيل لها نص الدستور، وتجنب التعبيرات المطاطة التى لا تعبر عن أى قاعدة معيارية محددة الدلالة مباشرة. وإذا مال البعض لإدراج الفقه فلابد تحديد أى مدرسة فقهية ومجال تطبيقها.. المسألة معقدة، فطالما شئنا اعتبار الشريعة الإسلامية بأحكامها العملية والتفصيلية ومدارسها الفقهية - وهى عديدة- مصدرًا للتشريع، فلا مناص من تحديد الفقه الذى نستلهمه كمصدر، ولا محيص من تحديد مجال تطبيق هذا المصدر.. فمن الممكن أن نأخذ بحلول المذهب الشافعى فى الطلاق وبحلول المذهب الحنفى فى الزواج.. وكذلك بالنسبة للإرث وموانع الزواج والوصية.. إلخ.. فهل يعقل أن نحدد كل ذلك فى مادة واحدة بالدستور؟، فبدون هذا التحديد وعلى الرغم من غرابته سوف يعترى المادة الثانية ومعها المادة 221 التى تحدد نطاق تطبيقها عيب جسيم فى الصياغة التشريعية لغياب حالات ومجالات التطبيق من ناحية، وغياب تحديد المدرسة الفقهية التى تتخذ كمصدر للتشريع المصرى فى السنوات القادمة من ناحية أخرى. إن نفس المشكلة تثور لو قيدنا إقرار البرلمان للتشريعات بموافقة هذه الأخيرة لأحكام الفقه الإسلامى بلا تحديد ولا قصر ولا إشارة للفقه المستهدف كقيد على يد مجلس النواب عندما يقوم بالوظيفة التشريعية. ثانيًا: تبنى نظام الرقابة السابقة على دستورية بعض القوانين الانتخابية قبل العمل بها وفقًا للمادة 184 من المشروع، كان يجب أن يقترن به نص آخر على الطبيعة القضائية للأحكام الصادرة من القضاء الدستورى فى إطار الرقابة السابقة، وقوة الشىء المقضى به القرينة بهذه الأحكام فى هذا النوع من الرقابة القضائية.. فليس صحيحًا كما يتصور البعض أن الرقابة السابقة هى رقابة سياسية طالما وجد بالدستور نص يكفل لقرارات المحكمة الدستورية حجية الشىء المقضى به، و يؤكد طبيعتها الملزمة على غرار حجية الأحكام الصادرة فى نطاق الرقابة اللاحقة على دستورية التشريعات، كما هو الحال فى فرنسا وفقًا لنص المادة 62 من الدستور الفرنسى الصادر سنة 1958. فمن الأمثل أن يتم التوسع فى الرقابة السابقة دون الإخلال بالرقابة اللاحقة، ولاسيما فى مجال الحريات العامة والحقوق الأساسية.. وذلك مع الاحتفاظ بالصفة الإلزامية لأحكام المحكمة الدستورية فى كلا النوعين من الرقابة.. ومن المؤسف أن الحريات العامة المنصوص عليها لم تفعل بضمانات قضائية جادة من هذا النوع تؤدى إلى أن تحال التشريعات الماسة بالحقوق والحريات العامة على وجه الخصوص بعد التصويت عليها فى البرلمان وقبل إصدارها إلى المحكمة الدستورية العليا إما بناء على طلب رئيس الجمهورية أو ثلاثين عضوًا من البرلمان، وذلك للفصل فى دستوريتها خلال ثلاثين يومًا من تاريخ الإحالة.. وهو ما يستوجب تعديل قانون المحكمة الدستورية لوضع الأحكام التنظيمية لهذا الاختصاص الدستورى الجديد.. وحكم المحكمة فى هذا النوع من الرقابة ملزم وله حجية الشىء المقضى شأنه فى ذلك شأن أحكامها فى إطار الرقابة اللاحقة على صدور القانون.. مما يعنى أولاً أن رئيس الجمهورية لا يستطيع أن يصدر النصوص المقضى بعدم دستوريتها، وثانيًا على مجلس الشعب أن يلتزم بما قضى به القاضى الدستورى.. ولا ينبغى أن تصادر هذه الرقابة على حق الطاعن وفقا لنظام الرقابة اللاحقة إذا ما ورد الطعن على نصوص أخرى من ذات القانون، شريطة أن المركز القانونى للطاعن يكون قد تهدد بإعمال نصوص القانون التى لم يقضى بدستوريتها فى نظام الرقابة السابقة. ثالثًا: وحرصًا على تقديم ضمانات جديدة وفعالة للحريات العامة يجب أن تتمتع المعاهدات الدولية - ولاسيما الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان - بقوة قانونية تعلو على التشريع، شريطة أن يتم التصديق عليها لتندرج فى النظام القانونى المصرى وتصبح جزءًا لا يتجزأ من أحكامه المنوط بالقضاء تطبيقها فى جميع أنواع المنازعات.. وتبعًا يجوز للقضاء العادى والإدارى أن يوقف تطبيق نص تشريعى فى نزاع ما إذا ما تراءى له أن التشريع واجب التطبيق مخالف لمبادئ الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها فى المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والمدرجة فى النظام القانونى المصرى بالتصديق عليها.. على أن إدراج هذه الآلية يحتم إدراج نص دستورى يحدد القيمة القانونية للمعاهدات ويمنح للقاضى آلية اللجوء إليها كمصدر من مصادر مشروعية الأعمال الإدارية وكقاعدة مرجعية لسلامة التشريعات فى مجالات الحريات العامة.. وهنا كان يكمن دور الجمعية التأسيسية فى إدراج نص فى مشروع الدستور الجديد يحدد القوة القانونية للمعاهدات حتى تتقرر لأول مرة فى النظام الدستورى المصرى الرقابة على موافقة التشريع للمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان بواسطة القضاء.. ومع الأسف اكتفت جمعيتنا التأسيسية من الغنيمة بالإياب واستعارت من دستور1971 جوهر النص الخاص بالمعاهدات بأن أعطت لها قوة التشريع فقط مما يستحيل معه على القاضى استبعاد التشريع الوطنى المخالف للمعاهدة إلا إذا كانت هذه الأخيرة أعلى منه فى القوة القانونية. إن محك المرحلة الجديدة ومعيارها هو ما يتضمنه الدستور الجديد من قواعد وآليات؛ لضمان وتفعيل الحريات والحقوق وليس النص البلاغى عليها وحسب.. إن المرور من جمهورية إلى أخرى ومن نظام دستورى إلى نظام دستورى يتوقف على مساحة الحريات التى تمارس على أرض الواقع والطرائق الحمائية الجديدة والفعالة لكفالة الحريات العامة بتوسيع اختصاصات القضاء الدستورى وبإعطاء القضاء العالى والإدارى سلطة مراقبة موافقة التشريع للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان المقررة فى المعاهدات الدولية التى صدقت مصر عليها. من الممكن طبعًا أن تظل الجمعية التأسيسية مخلصة للمبادئ القديمة المعروفة منذ السبعينيات وكأن القانون الدستورى لا يعرف التطور ولا الحداثة، وكان خبراء القانون فى مصر مقطوعى الصلة بما يحدث فى العالم كله.. لكن فى هذه الحالة إن إحباط أمة بأسرها لا يكفى لمسح عار جمعية تأسيسية متأخرة عن زمانها على الأقل بنصف قرن.. ومن الممكن فى النهاية أن تخدعنا الأقوال البلاغية فى الدستور دون أن يكون لها لا الطبيعة ولا القيمة الشارعة التى تميز المبادئ الدستورية الملزمة بمضمونها القاعدى الواضح - وهو ما أخشاه وأحتسب له. وفى هذه الحالة لا أملك إلا أن أردد الحكمة الإلهية فى قولها السديد: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد". د. وجدى ثابت غبريال كلية الحقوق والعلوم السياسية - جامعة لاروشل - فرنسا عضو الجمعية الفرنسية للدستوريين.