كنت صغيرًا حينما سمعت في إذاعة (لندن) أو (ال بي بي سي العربية) نبأ اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، صغيرًا بما لا يكفي لاستيعاب حدث كبير، لكنه كاف لمعرفة أي حدث هو أن يتم اغتيال رئيس مصر، وآنئذ كانت حرب أكتوبر ليست بجد بعيدة، جددت تذكرها اتفاقية كامب ديفيد والخطاب الشهير للسادات أمام الكنيست الإسرائيلي في الزيارة الأشْهَر. في كل أكتوبر يمضي نتذكر النصر، ونكاد ننسى السادات.. ففي المسافة الفاصلة بين الإحياء الراهن لذكرى النصر وصاحبه نحو ثلاثين عامًا شكّلت فاصلاً تاريخيًّا بين صعود الأحلام وهبوطها، مصر: القائدة للعرب، ومصر: المنقادة.. ليس للخارج فحسب، بل لظروفها: فساد وكثافة سكانية لم يستفد منها واقتصاد يترنح مع مصانع تغلق وأخرى تباع بأثمان بخسة. حينما سمعت خبر الاغتيال، كنت في غرفة طينية، ومعي مذياع بدائي، ولا أعرف من مصر إلا معلميّ في مدرسة قريتي، يقولون إنها بلاد كبيرة، بلاد أحمد شوقي وأم كلثوم وعبدالحليم ونجيب محفوظ، وأسماء عرفناها وحفظناها، وتواصلنا مع أعمالها أضعف من أن يوصف. منذ تلك الطفولة عرفنا أن أكتوبر مفردة موازية للنصر، وأن السادات هو بطل الحرب، متفق على ذلك، ومختلف على كونه بطل السلام. شخصيًّا، أجد في هذا الحالم المجنون حالة خاصة لا تتكرر، وخطاباته أراها أجمل من خطابات سابقه عبدالناصر، هو لا يتحدث بصوت القومي العربي إنما بصوت مصر الخاص، صوت الابن المشاغب الذي وجد نفسه رئيسًا بعد غياب شخصية كاريزمية كعبدالناصر، سرعان ما ملأ كرسي الرئاسة بشجاعة نادرة، كل ما في حياته دراما حقيقية، أحداث وشخصيات ولعب على حبلي القطبين (أمريكا والاتحاد السوفييتي). في مكتبة الإسكندرية زرت متحفًا مصغرًا ضمّ مقتنياته، تأملت كثيرًا مكتبه المتواضع وسيجاره الشهير وبدلته.. وصولاً إلى بدلته العسكرية وبقايا الرصاص والدم عليها، قست المسافة الفاصلة بين مشهد انسكاب الرصاصات من البنادق (الإخوانية) على بطل أكتوبر، بعيدا بآلاف الكيلومترات عن الطفل القابع في قرية يستمع في غرفة طينية للحدث، يراه بأذنه، وبعقله المحدود يتصور كيف يقتل رئيس مصر (أم الدنيا) في يوم احتفاله بنصر وطني مجيد! كم كانت المسافات واسعة الامتداد، احتجت عشرات السنين لأرى آثار ما حدث حينئذ في ذلك البعيد المتنائي، أخبرتنا به (إذاعة لندن) وكبر الحدث حينما أعطينا إجازة (حداد) لمدة ثلاثة أيام، وكبر أكثر بعد سنوات حيث قرأت كتاب محمد حسنين هيكل "خريف الغضب". يعود أكتوبر، على عرش مصر رئيس (إخواني) ورئيس (سابق) خلف قضبان السجن والمرض، وسوريا (شريكة النصر) تدفع عن نفسها الربيع العربي المر، وتكالبت الأمم علينا فوق قدرتنا على استيعاب وتوصيف وفرز العدو من الصديق. كان السادات سطرًا حائرًا في الكتاب العروبي الكبير، عبقري لم يأت في زمن يناسبه، أو أنه مجنون سعى (للخبطة) الصيغة العربية التقليدية فلم يجد سوى.. المقاطعة (من الخارج) ورصاصة (من الداخل).