تجسد الحماسة الفائقة لانتخابات مجلس الشعب قناعة استقرت في الفكر السياسي المصري منذ شهور بأنه سيكون أخطر مجلس برلماني منذ ثورة يوليو عام1952، ويستند ذلك إلي انطباع خاطئ بأن البرلمان المقبل هو الذي سيحدد شكل الانتخابات الرئاسية المقبلة. ومن الطريف أن الفكر السياسي العالمي ينظر لهذه الانتخابات بنفس الاهتمام. ويمثل تقرير جماعة الأزمات الدولية الذي صدر حول الانتخابات في مصر يوم الرابع من أكتوبر الحالي هذا الفكر خير تمثيل. فقد ناشد التقرير الحكومة وأحزاب المعارضة والحركات المستقلة للإصلاح وعلي رأسها كفاية أن تصوغ استراتيجية مناسبة للانتقال الديموقراطي. واقترح كتاب التقرير بأنفسهم ان يكون التركيز علي الانتخابات المقبلة جوهر تلك الاستراتيجية. دور البرلمان لاشك ان لهذه النظرية ما يبررها. فالبرلمان هو قلب الفكرة الديموقراطية بتعبيراتها الكلاسيكية بما فيها مبدأ سيادة الأمة أو الشعب، ومبدأ حكم الأغلبية. ووجود برلمان قوي وقادر علي محاسبة السلطة التنفيذية هو اهم شرط للتعبير عن ارادة الشعب في التاريخ السياسي العالمي، وفي تاريخ مصر الحديث لعب البرلمان دورا جوهريا في تأكيد الاقتران العميق بين الوطنية المصرية والحركة الشورية والديموقراطية منذ افتتاح مجلس شوري النو اب عام1866 والذي تحول سريعا الي واحد من البرلمانات الحقيقية الاولي في العالم وحتي عام1952، ويزخر تاريخنا السياسي بكلمات خالدة لنواب عظام كما ان الامل في انتاج برلمان يتسم بالتوازن المتحرك هو حجر الزاوية في استقرار النظام الديموقراطي في المستقبل. ولكن هذا كله شئ والتوصية بأن تكون الانتخابات المقبلة هي حجر الزاوية او مناط التركيز في استراتيجية مصرية للانتقال الديموقراطي هو شئ آخر. إذ لا اجد اسنادا او دعما لهذه النظرية في التاريخ السياسي لمصر، ولا اجد ما يبررها في الواقع السياسي الراهن. فكانت تجربة مجلس شوري النواب فريدة من نوعها. إذ بدأ كمنحة من الخديو اسماعيل لكي يوظف المجلس في مساعيه لدرء الوصاية الأجنبية علي البلاد بعد أن أغرقها في الديون وبعد تأسيس صندوق الدين. فسريعا ما اصبح هذا المجلس التاريخي برلمانا حقيقيا رغم انه لم يتمتع سوي بصلاحيات استشارية. وقد حدث ذلك لأن النخبة السياسية المصرية كانت تمر في ذلك الوقت بمرحلة ثورية دفعتها للاعتقاد بأن المشاركة المباشرة في السلطة هو الضمان الوحيد لحماية استقلال مصر. بل واضطر القسم الوطني من المجلس للمشاركة في الثورة العرابية التي استأثرت عمليا بالسلطة لفترة قصيرة بعد أن تحول الخديو توفيق إلي عميل للبريطانيين الذين كانوا يخططون لاحتلال مصر وقاموا بذلك الفعل. أما وفقا لدستور1923 فقد كان البرلمان هو أضعف مؤسسات الحركة الوطنية الديموقراطية في مصر لأن الدستور سمح للملك بحل البرلمان المنتخب شعبيا، وهو ما فعله الملك عبر سبعة انقلابات دستورية. ورغم أن النضال البرلماني شهد طفرات مهمة وخاصة عام1935 عندما حطم زعماء البلاد سلاسل البرلمان المغلق وفرضوا عودة الحياة الدستورية بما في ذلك دستور1923 الذي كان قد الغاه صدقي باشا فإنه لم يكن مركز الحياة السياسية الفعلية في البلاد ولم يكن هو المحرك للانتقال الديمقراطي. أما البرلمانات التي أعقبت ثورة1952 فلم تلعب سوي دور شكلي في الحياة السياسية للبلاد، ولم تحرك أية مبادرة سياسية او حتي تشريعية مهمة. وفضلا عن ذلك فإن الاعتماد علي الانتخابات البرلمانية كاستراتيجية لضمان الانتقال الديموقراطي في مصر يواجه عددا من المشكلات الجوهرية. أولي هذه المشكلات ان البرلمان بمجلسيه لا يملك سوي صلاحيات محدودة وفقا لدستور1971، بل أنه لا يملك حتي صلاحية سحب الثقة من وزير، ولم يحدث أن مارس البرلمان هذه الصلاحية منذ1952 في سياق ممارسته لصلاحياته الرقابية المحدودة. أما ثانية اهم المشكلات من الناحيتين القانونية والنظرية فهي ان الانتقال الديمقراطي يحتاج الدستورية قبل كل شئ الي عملية اصلاح دستوري عميق، قد تتم من خلال سلسلة من التعديلات الدستورية كما وعد الرئيس مبارك او عملية سليمة ومتكاملة لوضع دستور جديد كما يري كثيرون. أما أعقد المشكلات التي تواجه تلك النظرية فهي انه ليس من المتوقع ان تسفر الانتخابات المقبلة عن برلمان متوازن لأسباب كثيرة، اهم هذه الاسباب ان مصر شهدت استقرار نمط من الانتخابات البرلمانية التي ليس لها سوي صلة محدودة بالسياسة اصلا. فهذه الانتخابات تقوم علي معادلة جوهرية وهي الاصوات مقابل الخدمات وحيث ان اكثرية الانتخابات بيد جهاز الدولة فإن الدولة هي التي شكلت النخبة القابلة للانتخاب في البرلمان، او اكثريتها، وتقوم الانتخابات ايضا علي منافسات معروفة حول المكانة وسلطة النيابة بين عائلات وقري ومناطق، وهي منافسات ليس لها مضمون سياسي، وان كان يجمعها قانون عام واحد وهو ان الدولة هي المحدد الرئيسي للمكانات وهي التي تمنح القوة والاعتراف للشخصيات المنفذة في مختلف العصبيات العشائرية والعائلية والمحلية. ان تمتع هذه العناصر بالاغلبية في البرلمان امر واضح ويدل عليه مستوي المشاركة بالغة الانخفاض في مناقشات المجلس حول التشريعات المهمة وغير المهمة علي السواء. لا تغيب السياسة تماما عن البرلمان في مصر خاصة منذ تقنين التعددية السياسية المقيدة عام1976 ومن المتوقع ان ينجح في الانتخابات المقبلة عدد اكبر من ممثلي احزاب وحركات المعارضة وخاصة حركة الاخوان المسلمين. ولكن هذا العدد لن يكفي مطلقا حتي في انتخابات كاملة النزاهة لتحقيق التوازن الضروري لكي تأتي التشريعات بصورة متوازنة او لكي تعكس او تقود عملية الاصلاح التشريعي. الرهان القضائي ولكن ان لم يكن الرهان علي البرلمان كاستراتيجية لتحقيق الانتقال الديمقراطي، فهل هناك استراتيجية بديلة؟ الواقع ان الحياة السياسية الفعلية والنضال الفعلي من اجل الاصلاح السياسي والدستوري هو الضمان الحقيقي لتحقيق الانتقال الديمقراطي. أما إذا شئنا أن نركز علي مؤسسة ما من مؤسسات الدولة والمجتمع لدفع التطور الديموقراطي وتعزيزه فالأقرب الي التاريخ والواقع السياسي المصري الحديث هو أن نركز علي النظام القضائي. فالقضاء شكل الضمانة الاكثر فعالية في الدفاع عن الحقوق السياسية والمدنية للمصريين خلال الحقبة الأخيرة. وقدتطلب ذلك احيانا اسقاط تشريعات لم تستجب للمبادئ والقواعد الدستورية وتفسير التشريعات تفسيرا واسعا، او حتي تجاهل التشريعات المقيدة للحرية والاخذ بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التي وقعت وصدقت عليها البلاد، ولم يتحرك الواقع السياسي في مصر كثيرا الا عندما قام القضاء باستلام زمام المبادرة، ومن ثم فإن صدور قانون اصلاحي للسلطة القضائية مثل ذلك الذي يقترحه نادي القضاة قد يمثل الضمانة الاساسية للاصلاح السياسي لأنه يمثل طوق الحماية الضرورية للنضال الفعلي من اجل الانتقال الديمقراطي. ------------------------------------------------------------- صحيفة الاهرام