عبقرية المهندس أحمد عز ورجاله جعلته يكتب تاريخا جديدا في الفكر السياسي العالمي من خلال إدارته لعملية خوض الحزب الوطني الحاكم لانتخابات مجلس الشعب المقبلة ، لا يوجد حزب سياسي في العالم منذ نشأة الديمقراطية يقوم بترشيح اثنين من أعضائه على مقعد واحد في دائرة واحدة ، ويتعين على الحزب الذي رشحهما أن ينقسم على نفسه في تلك الدائرة فيعطي نصف أصوات مؤيدي الحزب إن كان له مؤيدون لهذا العضو والنصف الآخر للعضو الآخر ، في العرف الانتخابي البدائي يدفع بعض المتنافسين بآخرين للدخول في لعبة الترشيح رغم تواضع فرص الفوز لديهم من أجل تفتيت أصوات مرشح آخر ، لتمكين مرشح ثالث من حصد العدد الأكبر من الأصوات للنجاح ، وهناك محترفون لهذه العملية يتقاضون عنها مبالغ معروفة ، ولكن أن يقوم حزب سياسي بلعب هذه اللعبة مجانا بين أعضائه ، فيضرب بعضهم ببعض لصالح المرشح الثالث المنافس ، فتلك أعجوبة من أعاجيب الزمن ، وفتحا جديد في الفكر السياسي سيتوقف عنده المؤرخون طويلا . الحزب قال أن هذه الدوائر التي طرح فيها أكثر من مرشح له هي "دوائر مفتوحة" ، لكي يوحي بأنه الحزب ليس له مرشح رسمي في تلك الدائرة ، وهو كلام أسوأ من الأعجوبة السابقة ، لأنه يعني أن الحزب فاقد السيطرة على أعضائه ، وأن الأعضاء أقوى من الحزب ، أو أن الحزب أضعف من بعض الأسر والعشائر والأشخاص ، وهو ما يضعنا أمام حقيقة أنه لا يوجد حزب حقيقي حاكم ، وإنما مجموعة مصالح وحسابات وموازنات ، وأن حكاية البرنامج السياسي للحزب الذي يتقدم به للناخبين أصبحت نكتة لا يصح لعاقل طرحها في هذا الموقف . هل أراد "المهندس" أن يضرب بعض مرشحي الحزب ببعض في بعض الدوائر لفتح الفرصة أمام مرشحين لأحزاب أخرى جرى الاتفاق على منحها "كوتة" غير معلنة في البرلمان المقبل لكي يتسنى لها قيادة المعارضة في البرلمان بدلا من أعضاء "المحظورة" ، أم أن الحزب قلق من تجربة العام الماضي عندما خسر مرشحوه الرسميون أمام مرشحيه غير الرسميين في حوالي 60% من الدوائر مما أوقع الحزب في حرج بالغ وراح يلهث وراء "الخارجين عليه" ويسترضيهم لكي يعودوا إلى الهيئة البرلمانية للحزب ، أم أن قيادات الحزب "ومهندسيه" يخافون أن يتورطوا مرة أخرى في فضيحة اختيارات خاطئة لدرجة أن الناس ترفض مرشحي الحزب الذين اختارهم "المهندس" وتختار مرشحي الحزب الذين أبعدهم "المهندس" . لقد قال الرئيس مبارك في خطابه الذي ألقاه في اجتماعه مع الهيئة العليا للحزب أمس " إنني أعاود تطلعي- وتطلع الحزب- لانتخابات حرة ونزيهة تتم تحت إشراف اللجنة العليا للانتخابات ومراقبة المجتمع المدني المصري" ، ومع ذلك لا يقتنع كثيرون في مصر وخارجها بأن هذه الانتخابات ستتم وفق "تطلع" الرئيس ، خاصة وأن هذا التطلع صدر قبل ذلك مرارا ورأينا نتائجه ، كما أن المقدمات التي عرفتها منظومة الانتخاب في مصر خلال السنوات الأخيرة وأخطرها إبعاد القضاء عن إدارة العملية الانتخابية أعطت مؤشرا إلى الرغبة الجامحة لتحويل الانتخابات لعملية "هندسية" بحتة . على المستوى الشخصي لست متفائلا بنتائج تلك الانتخابات ، ليس فقط في إجراءاتها ونزاهتها ، وإنما أيضا بالطرح السياسي المقدم فيها والقوى السياسية التي تخوضها ، لا يوجد في ترشيحات أو برامج الحكومة أو المعارضة ما يقنعك بطموح حقيقي أو رؤية إصلاحية شاملة وجادة ، محض مغامرات ذات دوافع شخصية أو فئوية ، وتبقى آمال مصر في إنقاذ مستقبلها محفوظة في رحم الغيب . [email protected]