كمال حبيب الصيام تعويد للنفس علي المنع والإمساك والتحكم في الشهوات ، وكما نعلم فالأحكام الشرعية دائرة بين الأمر والنهي أو بين الوجوب والحرمة أو بين الترك والفعل ، وفي الحديث " فما نهيتكم عنه فاجتنبوا " فأفعال النهي والترك والحرام تحتاج لإرادة قوية من المسلم ، والحرام هو ماحرمه الله ولا بد للمسلم من اجتنابه كله من أوله لآخره ،وعلي سبيل المثال مثلا ، فشرب الخمر حرمه الله فلا يجوز لمسلم بحال أن يمسه لأنه نجس فلابد من قوة الترك والإرادة المتينة التي لا تعرف التراخي أو التردد ،والإرادة هي الرافعة التي تنقل الأمر الشرعي من القوة إلي الفعل كما يقول الفلاسفة – أي من العدم إلي الوجود ولذا تجد في كل الأحكام الشرعية شرط النية أي التي هي الإرادة- أي العزيمة التي لا تنخرم التي يقصد بها المسلم أداء عبادته علي مايرضي ربه وفق ما أمر به النبي صلي الله عليه وسلم . والنسق التشريعي للإسلام يجعل الفرائض كما يعرف القراء علي نوعين أحدها فرض عين أي واجب علي المكلف المسلم – أي الفرد المسلم ، لا يجوز أن ينيب عنه أحداً فيها . أما فروض الكفايات فهي تعبير عن روح الأمة وتكاتفها فالأولي يعبر عنها الفقهاء بأنها حق الله والثانية يعبرون عنها بأنها حق الجماعة التي تجعل من المسلمين " ذمة واحدة يسعي بها أدناهم وهم يد علي من سواهم " ، وتجعل منهم بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضاَ ، بحيث لو قام بها بعض المسلمين سقط عن الآخرين ، ويقوم بها أولئك المتمكنين منها الذين حصلوا علي أسباب العلم بها . فلا يجوز للأمة أن تبقي محتاجة لشئ ولاتنهض بها الجماعة لسد هذه الحاجة من أول الإبرة إلي الصاروخ ، ونحن نقول هنا الجماعة والتي تعبر عنها الدولة أو السلطة المسلمة أيا كانت . المهم هنا هو أن العبودية هي أن يكون قصد العبد ومنهجه ومرجعه هو شرع الله أي الالتزام بالأمر والترك ، وكما قلنا أن فعل الترك يحتاج لمجاهدة أكبر ، ومن هنا كان الصيام فرض علي المسلم شهراً كاملا لتعويده وتدريبه علي الترك حتي يأتي العشر الأواخر وهو قد ترك المباح من أجل التعود علي ترك المحرم في الأشهر العادية . وكما تعلمون فإن المسلم في جهاد دائم يجاهد عدوه الأكبر الشيطان ويجاهد تزيين الحرام ، ويجاهد الفساد والاستبداد وغيرها ، وكل المشاكل التي تواجه العالم الإسلامي متصلة بغياب قوة إرادة الترك . السارق والفاسد والمرتشي والمزور والمجامل والمداهن كل هؤلاء لديهم ضعف في إرادة الترك ، وضعف في العبادة التي تعني امتداد آثار رمضان إلي بقية شهور العام ، ولذا جعل الصيام مندوبا ً في غير رمضان وكأن الإشارة المهمة هنا هي أن روح الطاعة والعبادة في رمضان تمتد لحياة المسلم في بقية العام . والعلمانية التي تعني الفصل بين العبادة والحياة بين الدين والدنيا بمعناها الواسع هي تعبير عن الفصل بين رمضان وبقية العام فيكون المسلم في رمضان متعبداً محترما وفي غيره يكون من وراء ذلك تاركاً لأهوائه ومصالحه الذاتية أن تكون ضد أهله وأمته ، فالعلمانية هي تغليب مصلحة الفرد الذاتية علي مصلحة أمته ، وهي الفصل بين الحياة والدنيا بمعناها الواسع وبين الأعمال التي يؤديها المرء . العلمانية في ظني هي المساحة التي يعتدي فيها المسلم علي النظام الذي وضعه الخالق لسياسة الدنيا ، وهذا النظام يبدأ من أول الواجبات والمتروكات والقيم والمباحات الواسعة التي تركها لنا الله سبحانه نحن نفعلها من أجل تحصيل أسباب المتعة الحلال أي المتعة التي لا تخالف أمر الله . العلماني المسلم يصوم ولكن في رمضان ويصلي ولكن في المسجد ويمسك السبحة ويطلق اللحية ولكنه في الحياة ونظمها لا يلتزم الصدق ولا الأمانة ولا رد الحقوق إلي أصحابها ، إذن الصوم كعبادة هي تدريب للنفس المسلمة أن تكون دائما متحرية روح رمضان حتي قي غيره ، وأن يكون روح الصيام ومعناه منساباً في وجدان المسلم بحيث يكون تعبيراً عن روح المنظومة الإسلامية كلها بأخلاقها وقيمها وأحكامها الشرعية . العبادة هي التي يكون المسلم فيها في منشطه وسعيه في الدنيا ملتزما بمنهج الله وهو ، أما التزامه بهواه أو نزقه أومتعته الخاصة فبقدر مايكون مبتعداً عن المرجعية الإسلامية يكون علمانيا . الصيام هو عون المسلم لكي يكون عبدا لله يصل بين رمضان وبقية العام وبين الصيام وبقية القيم والأخلاق الإسلامية وبين الدين والدنيا والحياة ، إن حياة بلا منهج أخلاقي وقيمي لهي حياة بائسة لا معني لها سوي الشقاء والعبث وتلك هي العلمانية أما العبودية فهي امتداد منهج الإسلام إلي الوجود الفردي والكيان الاجتماعي كله وهذه هي الحياة التي تحقق معني الاستخلاف والتواصل بين الغيب والشهادة وبين الدنيا والآخرة . [email protected]