كمال حبيب الصيام من الفعل صام ، ومعناه الإمساك ، والناس يقولون علي الورقة التي تسجل أوقات الإفطار والسحور بالإمساكية ، وربما يكون معني الإمساكية هنا الارتباط الزمني بمواقيت الإفطار والإمساك فكلاهما عنصران فيهما معني الفرح للصائم ، وفي الحديث " للصائم فرحتان ، فرحة حين يفطر ، وفرحة حين يلقي ربه " ، فكلاهما فيه معني اللقاء علي الطاعة والامتثال لأمر الله ، والفرحة الأولي هي مقدمة للفرحة الثانية والتي تعني النجاة من النار . وقبل أن أمر علي هذه النقطة المهمة أقول ، إننا كمفكرين نتحدث عن انتماء المسلم لعصره وإدراكه لمعني الزمن وقيمة الوقت ،وأن المسلم بدون وعي بما يدور في عصره هو مسلم في حكم من أفطر في وقت الصيام ، أو في حكم من استعد للحج وقت عودة الناس ، عنصر التوقيت والزمن مهم جداً في كل الأوامر والنواهي . فعلة الصلاة دخول وقتها ، ولا يجوز لمسلم أن يصلي قبل دخول الوقت ، والحج أشهر معلومات ، والزكاة مرتبطة بالحول أي نهاية العام بعد اكتمال دورته . والصدقات الأخري مرتبطة بتمام نضج الزروع ووقت حصاده ، فحق الفقراء في الحصاد وهي ما يعرفها الفقهاء بزكاة الزروع مرتبطة بوقت الحصاد " وآتوا حقه يوم حصاده " . وتحديد مطالع الشهور مرتبطة برؤية الهلال ، فالوقت والزمن هما جوهر حياة المسلم ، فكيف يكون المسلم منفصلاً عن العصر والزمن الذي يعيش فيه . ولدينا سورة مهمة جدا في القرآن وهي كفارة المجلس أي التي تغفر للناس شوائب زلاتهم حين يجلسون وتنفلت منهم الكلمات الطائشة أو الهادئة ولكنها تعبر عن الغفلة أو الاستسهال . هذه السورة هي سورة العصر . والعصر هي وقت حرج بين الصلوات ولذا أوصي الله به فقال " حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطي " وهي صلاة العصر لأن تأتي في آخر اليوم حيث يكون الوقت متسارعاً والأعمال متزايدة وضاغطة وهو ما قد يدفع المسلم إلي الانشغال بأعمال الدنيا التي تلهي عن العصر . ولماذا صلاة العصر كفارة للمجلس ، لأن المجالس عادة ماتكون مضيعة للوقت ونهباً للخير والبركة إذا كلما اجتمع الناس علي الكلام والثرثرة دون عمل ، كان ذلك مدعاة للانفصال عن منهج الإسلام القائم علي العمل والترويح الذي لا يهدر الوقت والحسنات فيما لا ينفع ، وكأن سورة العصر تنبه من كانوا بالمجلس أن العصر والزمن يقودك إلي أجلك ولا بد من انتهازه في الخير . فالصيام والإمساك عنصر الزمن فيهما يتجلي بقوة ربما لا نلاحظة في عبادة أخري ، ومن هنا الصيام هو تذكير للمسلم بضرورة الوعي بزمنه وعصره والوقت الذي يعيش فيه . أعود لمعني الصيام الشرعي أي كما عرفه الفقه الإسلامي فاللغة هي أحد مستويات التعريف ولكن المستوي الأهم في العبادات هو مستوي التعريف الشرعي أو الفقهي " الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلي غروب الشمس مع النية " ، ويقال صام عن الكلام أي امتنع عنه ، وفي بعض تعريفات الصوم اللغوية الصمت وكأن الصوم أهم تعبيراته الصمت أي كف اللسان عن أذي الناس ، والصمت فضيلة مهمة يتعلم المسلم منها تربية نفسه عن صونها وحفظها من زلات لسانه واندفاعاته وانطلاقاته المدمرة . فالصوم صمت وتأمل وفكر وتفكر وارتقاء بالنفس والروح إلي المعالي وأشواق الآخرة ، والصوم إمساك فمعني الكلمة يدور حول الإمساك بمعناه الواسع ، وهذا فيه معني جميل وهو أن الصوم يدرب المسلم علي الإمساك وهذه القوة المهمة وهي قوة الكف أو الامتناع هي أحد القوي التي إن تحلي بها مسلم كانت له ذخراً في أوقات الحرج ، وعلماء النفس يسمونها قوة لأن فيها معني السيطرة علي نوازع النفس الأمارة ، وقوة الكف عادة يتحلي بها ذوو الإرادة القوية الحازمة ، لأن قوة الاندفاع والانطلاق هي تعبير عن الاستجابة للغرائز والاستمتاع والإنفاق وهي قوة هائلة لا يمكننا الاستهانة بها أبداً ، فعلامات انحطاط أي مجتمع أو أمة هي شيوع قوي الانطلاق والاندفاع فيها نحو الاستهلاك أو الغزو أو المتعة واللذه بدون قوة أخري توازنها وهي قوة المنع والكف فقوة المنع والكف هي التي تعطي لقوة الانطلاق والاندفاع وسطيتها وعقلانيتها ومذاقها الإنساني الذي يحولها لقوة تبني ولا تهدم . أظن أن الفعل الحضاري الأول للإنسان كان مرتبطاً بقوة الكف والمنع ، ذلك لأن قوة الاندفاع والانطلاق مرتبطة بطور غرائزي لابد من ضبطه وكفه ليكون الإنسان متحضراً، والفعل الحضاري للإنسان كان باتجاه إعمال قوة الكف والمنع والإمساك والصيام ويمكننا أن نعرف الصوم من منظور حضاري بأنه " إعمال قوة الكف والمنع لضبط نوازع الانطلاق والاندفاع بضوابط القصد من استخلاف الله للإنسان في الأرض " . Elsaid67@ hotmail.com