بَعْدَ أَنْ حَكَمَت عليه المحكمة بثلاثة شهور مع إِيقاف التنفيذ، أُسْدل الستار على فصول مسرحية هزلية قام ببطولتها النائب البلكيمى، وأخرجها حزب النور بالمشاركة مع فضائيات الفتنة والفلول، وكتب السيناريو على مدار عقود طويلة مشايخ من خلف الستار، وبداية لا أدَّعِى لبَشَر براءة من الأغلاط والتجاوزات، وما البلكيمى إلا بَشَرٌ من البَشَر يعتريه ما يعترى سائرهم من الخطأ والزلل، لَكِنْ لا أريد أَنْ تَمُرَّ هذه الحادثة دون أَنْ نقف على فوائد منها ودروس، فالْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وفى الذكر الحكيم: "قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ"، من هذه الفوائد: التربية المتكاملة: على الرغم من أَنَّ الرجل أَتَى مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، إِلَّا أَنَّ المسئولية الأخلاقية عن فَعْلَته لا تُعْصب كاملة برقبته، فللمُرَبَّى وللمدرسة التى ينتمى إليها النائب حَظ ونصيب، وعليهم إِعادة النظر فى منزلة الأخلاق والسلوك فى برامجهم التى يربون عليها الناشئة والْأَتْبَاع، وتصحيح المفاهيم الملتبسة التى توحِى بأَنَّ الْأَهَمَّ هو مسائل الاعتقاد النظرية، ثم لا يضر الْإِنْسَان بعد ذلك أَنْ يَعِيث فى الأرض فسادا أو يَفْرِى فى أعراض الآخرين، وكأَنَّ نَبِى الرحمة لم يُلَخص للناس رسالته فى كلمات معدودات: "إنَّمَا بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ"، والمسلم يُطْبَعُ على كل شىء إِلَّا الخيانة والكذب، كما يتوجب عليهم أيضا العناية بمشكلات الشباب النفسية والاجتماعية واستهدافها بالتقويم والتهذيب التربوى لذاتها، وهذه مُهِمة شاقة مُتَضَمنَةٌ فى ألآية الكريمة: "إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا"، فلهذه المشكلات جذور عميقة و حَيَّةٌ تَمُد العقل المسلم بالكثير من أسباب التفكير الْمُعْوَجَّ، ومِنْ الملاحظ أَنَّ بعض قيادات الدعوة يظن أَنَّ التوجيه الشفهى والحديث النظرى المجرد وحده كَافٍ فى تحقيق أهداف التربية، وأَنَّ الْأَتْباع يتلقون كلماتهم تلقيهم لِلْوَحْى الْمُنَزَّلِ، فلا تلبث هذه الكلمات أنْ تتحول - فى ظَنِّهِمْ - إلى واقع عملى فى النفوس والمجتمعات، والسؤال الدى يطرح نفسه: هل "بلكيمى" ما قبل التجميل هو نفسه "بلكيمى" ما بعد التجميل؟ أم أَنّ الرجل تعامل مع الموقف بطريقة منفصلة عن طبيعته وذاته، وخَلَعَ رداء التقوى والمراقبة - فى التَّوِ واللحظة - لِيَلْبَس للتجميل قميص التلون والخداع؟ تأصيل الثوابت والمحكمات: لقد كشف حادث البلكيمى أَنَّ البيئة السلفية ليست بيئة نقية، وأَنَّ عدم النقاء قد يطال الثوابت والمحكمات، بل طالها بالفعل، مما يلزم ترسيخ هذه الثوابت وتأصيلها والاعتناء بها، ومن هذه الثوابت: الاعتزاز بالدين وعدم وضعه موضع السخرية أو الاستهزاء، فلَيْتَ الرجل اكتفى بفَعْلَته التى فَعَلَ واختفى عن الأنظار، بل حَطَّ رَحْله على أبواب الفضائيات، لتتلقفه يد الحقد والكراهية والتى وجدت فيه صيدا سمينا لتشويه التيار الإسلامى بِرُمَّتِهِ على قاعدة "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِها"، وقد كنت أنظر - فى حزن وتأسف - إلى إِحْدَى الحاقدات وهى تحاور وتراوغ وقد خُيِّل اليها أَنَّ المشروع الإسلامى فشل، وها هى ترقص على أشلائه، والبلكيمى أمامها فريسة مستسلمة مهزوزة مهزومة!! الانفتاح المتوازن: فى نظرى أَنَّ السبب الذى دفع النائب أنْ يُجْرى على استحياء عملية معتادة يجريها الناس صباح مساء، وأنْ يَسْتَقِى فتواه من مشايخ جماعته، هو أَنَّ مدرسته الدعوية تمنعه من أنْ ينفتح على أحد غيرها، فهى ماؤه وهواؤه، بعد أنْ خَيَّلت إليه أَنَّه معها سيَحُطُّ رحله فى الجنة من الآن، وكيف لا وهى الجماعة الأنقى منهجا والأصفى عقيدة!!، ولو أن الرجل ذهب الى أهل الاختصاص فى الفقه وأصوله لوجد عندهم الخبر اليقين، الذى معى يطمئن إلى ما يقدم عليه دون خوف أو وَجَلٍ، فليس مِنْ الصواب الخلط بين الفقيه الأصولى وبين الداعية والواعظ والخطيب، كما أَنَّ الْإِحاطة ببعض المسائل الفقهية لا تُخْرِج صاحبها عن نطاق العامية أو طلب العلم إِنْ كان له القدرة على الاستنباط والنظر، واجتهاد غير أهل الاختصاص غير مُعْتَبر لأنه يمثل عدوانا على الحقيقة والصواب. الاهتمام بالإِنسان الْجَوْهَر: ينتمى البلكيمى إلى المدرسة التى حَشَت ذاكرته بتعظيم الإنسان الْمَظْهَر على الإِنسان الْجَوْهَر، يسهل الوقوف على ذلك بتتبع مؤلفات أقطابها ومنها: (الأدلة على تحريم حلق اللحية) (اللحية لماذا؟) (بل النقاب واجب) (بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب) وغيرها الكثير، ولا أُقَللُ من أهمية ذلك، بل ربما يكون بعض ما اختاروه أقرب إلى الصواب، لَكِنْ لَيْتَهُمْ - حين رَجَّحُوا رأيا على آخر – ساقوا رأيهم مساق الظنيات التى يَسَعُهَا الاجتهاد الْمُعْتَبَرُ، ولم يسوقوها مساق القطعيات التى لا تبقى لأحد معها قولا، ولَيْتَهُمْ بَيَّنُوا لأتباعهم ماذا يقدمون عند التعارض: الْمَظْهَر أَمْ الْجَوْهَر؟ وما الفوائد الْمُسْتَوحاة من قول النَّبِى الكريم – وهو يشير إِلى صدره - ثلاثا: "التَّقْوَى هَاهُنَا"؟؟ إِنَّ من سِمَاتِ الإِنسان الْجَوْهَرِ: الاِستقلالية والاستعداد الدائم لقبول الحق أَيًّا كان مصدره، والتراجع عن الخطأ وتعديل الرأى وحضور العقل والقدرة على النقد البناء وتَقَبله والمناقشة والمعارضة الهادفة، وهى صفات تدل على أنَّ صاحبها يمتلك ذاتا عظيمة متكاملة لا تفتقر إِلى الإضافات والرتوش الخارجية، فعظَمَته نابعة من داخله، وليست نابعة من عَظْمة أَنْفه، أَمَّا الإِنسان الْمَظْهَر فهو يعيش فى جلباب شيخه ومَنْ يُمَثَّلُه، ويهيمن عليه الإِغراق فى مشابهة بنى جماعته، فإِذا ما تجاوزت الطلاء الخارجى وَجَدْتَ نَفْسَكَ أمام إِنسان بِدَائِى فى فكره ومشاعره وتطلعاته. وفى الختام: لَسْتُ أَوَّلَ مَنْ كتب عن البلكيمى، فقد سَبَقَنِى حريصون أقلقهم الْحَدَث وقَضَّ مضاجعهم، لَكِنِّى قَصَدْتُ التنبيه على ما فيه من دروس وعبر، وَقَفْتُ على القليل منها تنبيها على الكثير، وأتمنى أنْ يكون فى أمره عبرة للمشايخ والدعاة والْمُرَبَّين لأنْ يتحسسوا مواضع ألسنتهم، وأنْ يُرَاجِعوا اختياراتهم ومناهجهم وأطروحاتهم، فبِنَاءُ إِنسان أَشَقُّ من النَّحْت فى الصُّخُور، وفى الْحِكْمَة إِذَا لم تستطع أنْ تَبْنِى مدينة فَابْنِ عقلاً، عفا الله عن البلكيمى ورزقنا وإِيَّاهُ مراقبة الْجَلِيل فى السِّرِّ والْعَلَنِ. أحمد عبد المجيد مكى – باحث فى مقاصد الشريعة الاسلامية