احذر فهديتك تمثل شخصك إن كان معك في هذه الأيام شيئ تهديه.. نعم فالهدية تحل محل صاحبها.. والاعتزاز بها وإكرامها لا يعني الاعجاب بها كما يعني في المقام الأول تقدير صاحبها والاعتزاز به.. أذكر أنه في بعض المظاهرات التي كانت تحدث أيام حكم مبارك كان الأستاذ محمد عبد القدوس من أكثر المشاغبين ومن أسبق المتظاهرين في كل مناسبة صغرت أم كبرت، حقيقة كان رجلا شجاعا، وفي عقب بعض التظاهرات كتب مقالا في صحيفة آفاق عربية يبدي حزنه على ضياع مصحف صغير قد وقع منه في المظاهرات وطالب من يجده أن يرده إليه لأنه عزيز جدا في نفسه، وأثير لدى قلبه، فقد كان هدية من الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله إليه.. كانت صدمة كبيرة لفولتير حينما كان يتفقد سوق الكتب المستعملة، فإذا به يجد كتابا له كان قد أعطاه لصديق له وكتب عليه إهداءه، فاشتراه مرة ثانية وأهداه لصديقه مرة أخرى وعلمه درسا بالغا في الوفاء والاحترام والتقدير. وكان الأستاذ إحسان عبد القدوس يرفض أن يهدي كتبه إلى أحد لأنه لا يرضى أن تهمل هديته التي تعبر عن شخصه ونفسه، وتترك بلا قراءه لأنه كان نفس التصرف الذي يُبديه مع كتب الأخرين التي تُهدى إليه، ومن ثم لم يرغب أن يُعامل بما يُعامِل به غيره.! وطه حسين كان يصرح بأنه من كثرة ما يهدى إليه من الكتب فإنه لم يجد لها مكانا يضعها فيه إلا بانيو الحمام، وهو ما كان يشكل خلافا كبيرا بينه وبين زوجته. ومن طرائف الاهداءات أن المستشار الهضيبي مرشد الإخوان حينما التقى بفاروق ومنحه القصر صورة للملك أخذها الهضيبي ولم يمزقها أو يرم بها في اليم، وإنما أخذها فعلا وعلقها في بيته ولكن في الحمام.. لأنه رأى أن هذا هو المكان الأليق بصورة فاروق. كثيرا ما أقلب في كتب أبي الصفراء التي كانت في الأربعينات والخمسينات، لأجد بعضا منها أهداه إليه أصدقاؤه، ويصاحبها جمال لا أعرف سره أو مصدره.! الدكتور والعالم الكبير عبد الصبور شاهين أهداني كتابه (علموا أولادكم القضية) ممهورا بتوقيعه الذي أعتز بخطه وإهدائه رحمه الله.. والعلامة الكبير دكتور محمود عمارة وبحكم قربي منه، كان يهدي إلي كل كتبه، أو بالأحرى كان لابد أن تكون لي نسخة محجوزة من كل كتاب له، لكنها للأسف بلا توقيع فليس من المعقول أن يوقع اسمي وإهداءه على كل كتاب .. لكنها بلاشك عزيزة في النفس حتى وإن كانت مجردة من التوقيع، لأنني كلما رأيتها تذكرت يده الكريمة رحمه الله وهي تمتد إلي بها. ومرة أهديت كتابي (صامدون في وجه الإحباط) لزميل لي في العمل وشاءت الظروف أن ينتقل إلى مكان آخر، فجمع كل أغراضه ومستحقاته من مكتبه وتركه لمكتب آخر ولم يترك أي شيء يخصه إلا شيئا واحدا وهو كتابي، وكأنه يوصل لي رسالة أن كتابك وأنت لا قيمة لكما، وأنكما من المهملات، وهو الموقف الذي كان لابد أن ألقنه فيه درسا شبيها بدرس فولتير لصديقه إن لم يكن أشد وأقسى.