بعيداً عن مسألة الكرم والبخل، يبدو مسلك الأدباء في إهداء كتبهم أمراً محيراً وموضوعاً طريفاً يستحق التأمل، ويثير التساؤلات التي تبحث دائماً عن إجابات ومنها: لماذا يحرص كثير من الأدباء علي إهداء نصوصهم وإبداعاتهم إلي شخصيات وكيانات، وما الفلسفة ومعايير الاختيار؟، بينما يحجم آخرون عن ذلك، وما الأسباب؟، ولماذا يكثر بعضهم من إهداء نسخ مجانية من مؤلفاتهم إلي معارفهم وأصدقائهم وأقربائهم؟، في حين يقتصر البعض الآخر علي إهداء نسخ إلي النقاد والإعلاميين؟ في البداية يقول الأديب الكبير د. نبيل فاروق: المسألة تأتي بظروفها، فمثلاً لأن العام الحالي وافق اليوبيل الذهبي لمعرض الكتاب، فكل إصداراتي الجديد أهديتها إلي أصدقائي، بحيث أهديت الكتاب المناسب الي الصديق المناسب، فمثلاً لدي رواية عنوانها »رؤي» أهديتها إلي العالم الجليل د. أسامة الأزهري، لأن برنامجه يحمل نفس الاسم، وقد استأذنته في استخدام عنوان برنامجه كاسم لروايتي، أما الوزير تركي آل شيخ فقد طلب مني رواية لتحويلها إلي »فيلم»، وحالت ظروف دون ذلك، وعندما طبعت الرواية في كتاب أهديته له، أما أحدث أعداد سلسلة »رجل المستحيل» فقد أهديته إلي رجل المستحيل نفسه، ويضيف د. نبيل فاروق بقوله وعادة ما أكتب ما أشعر به في لحظتها ولا أتقيد بصيغة معينة، وليست كل كتبي تحمل إهداءات في الصدارة، أما بالنسبة لمن أرسل اليهم نسخ كتبي، أقوم بكتابة إهداء خاص بهم وعادة أكتب عبارة »مع خالص تحياتي»،. أما المؤرخ الكبير ومحقق التراث الشهير د. أيمن فؤاد سيد فيقول: عادة ما أترك كتابة الإهداء المطبوع للصدفة، فمثلاً أهديت ثلاثة فقط من كتبي البالغة »28» مؤلفا فكتابي الدولة الفاطمية أهديته الي الرواد الاوائل في الدراسات الفاطمية وكتاب رسالة الدكتوراة أهديته إلي زوجتي وبناتي، لأنهن ساعدنني كثيرا، والكتاب الثالث (التراث العربي المخطوط) أهديته إلي المرحوم والدي. شخصيات في الذاكرة في حين تقول الأديبة المتميزة هالة البدري: أنا حريصة علي أن أكتب إهداء في صدارة كل كتاب أصدره، فعندي تصور لمن أهدي هذا الكتاب احياناً من قبل بداية الكتابة، وأحياناً بعد أن انتهي منها خاصة أنه أصبح لدي عدد كبير من المؤلفات وقد أهديت كتبي في البداية إلي عدد كبير منهم، وأحياناً أهدي أعمالي إلي أفكار مجردة وفي البداية كنت أهدي الكتاب إلي شخصيات معينة، فمثلاً أحد كتبي أهديته إلي »الآتي أي المستقبل لدرجة أن بعض الناس تصوروا أنني أهديه إلي نفسي، وفي البداية أهديت كتابي إلي أمي، وأول رواية إلي أبي وكتبت فيها (إلي أبي الذي أطلقتني يداه إلي عالم رحب) وكانت رواية (السباحة في قمقم)، كما أهديت إلي زوجي كتابا ، ثم بعد ذلك كنت أقوم بتدوين شطر بيت من الشعر، وظللت لسنوات أكتب في روايتي: إليك ثم أكتب بقية البيت، فمثلاً في رواية »منتهي» كتبت: إليك فأنت والكتابة منتهاي»، وفي رواية »امرأة ما» كتبت »إليك لا أكون إلا بك.. فحذفتها (الدار الناشر)، وقالت انه ليس عندهم تقليد إهداء الكتاب. أما الرواية الأخيرة (نساء في بيتي) فتحمل إهداء نصه (إلي الأصابع التي تخمش راحة اليد زهوا أو ألماً» وكلما أكتب تختلف إهداءاتي، فهي جزء من عتبات النص وأصبح وعيي يزيد أكثر، فأصبح من المفيد أن أدقق في اختياراتي، فمثلا كتابي »سحر الأمكنة» وهو كتاب رحلات أهديته إلي تامر وكريم وإنجي زوجة ابني، علي أساس ان العالم منفتح ورحب وأريد ان يأخذوا فكرة السفر وهم بالفعل يحبون السفر. حالة خاصة جداً! ويعترف الأديب شريف صالح قائلاً: لا أحب كتابة الإهداءات وأهرب منها، لأنها تقيد تداول الكتاب، وتضع (المهدي) في حرج إذا أحب التنازل عنه، أيضاً من الصعب عليّ كتابة سطور خارج النص، فالإهداء يتطلب كلاماً خاصاً له علاقة بمن توجهه إليه، فيحدث أنني لا أعرف ماذا يجب أن أقول، لذلك غالباً أكتفي بجمل ثابتة، وأكررها، ويضيف: عموماً أنا لا أميل إلي التذكارات، لكنني أتفهم من يحبونها، لذلك أهدي كتبي عارية منها ، إلا إذا طلب مني كتابة شيء، وحفلات التوقيع باتت تجبرني علي القيام بذلكِ. نوع من الخيانة! وتقول الشاعرة د. شيرين العدوي: الإهداء عرف توافق عليه الكتاب حتي أصبح جزءاً من شكل الكتاب المطبوع، وأعتقد أن أي أهداء نكتبه بعيداً عن القارئ. نكون قد ارتكبنا خيانة للإبداع، ذلك لأن العملية الإبداعية في الأساس موجهة إلي قاريء نجهل هويته ومكانه، من الممكن أن يقرأ عملي هذا قارئ بعد ألف عام، ويجد ما يسعده فيما كتبت، المشكلة أنني وأنا صغيرة كنت مولعة بهذا الإهداء كعتبة للنص فأهديت ديواني الأول إلي الوطن، ثم كان الديوان الثاني الذي أهديته إلي أبي وأمي، وكان نوعاً من المصالحة لأبي الذي غضب لاستخدامي لقب العائلة دون أسمه. بينما تقول الأديبة سعاد سليمان: عادة ما أهتم بالإهداءات تعبيراً عن الامتنان لأشخاص كانوا أصحاب فضل لا ينكر أردت أن أخلد أسماءهم علي صفحات كتبي، كي أظل أشعر أنا بهذا الامتنان، وبعض الإهداءات تكون تعبيراً عن التأثر بأديب قرأت له، ومن ثم أثر في تكويني الأدبي مثل »يوسف إدريس» ، والذي أهديت إليه مجموعتي القصصية »الراقص». أما الإهداءات علي الكتاب، أو في حفلات التوقيع فلست مغرمة بها كثيراً. وفي الختام تقول الأديبة د.سالي مجدي: أعتقد أنه لا يوجد أديب لا يحب كتابة الإهداء في مقدمة العمل، فبعد انتهاء ذلك الجهد من حق الأديب أن يهديه إلي شخص أو كيان، وعن نفسي فقد أهديت أعمالي المتتابعة أحدها إلي الله - تعالي - وآخر إلي نفسي وأمي وإلي ابني وزوجي وإخوتي، إنها الصفحة الوحيدة في العمل التي يطل فيها الأديب بشخصيته الحقيقية قبل أن يتقمص دور الأبطال.