هارون الرشيد بن محمد المهدى هو الخليفة العباسى الخامس، وهو أشهر الخلفاء العباسيين، ولد سنة 763م فى مدينة الرى وتوفى سنة 809م، فى مدينة طوس (مشهد اليوم). المصادر العربية أفاضت الكلام عنه، وصورته بالخليفة الورع المتدين الذى تسيل عبراته عند سماع الموعظة، والمجاهد الذى أمضى معظم حياته بين حج وغزو, فكان يحج عامًا ويغزو عامًا, وأنه أول خليفة عباسى قاد الغزو بنفسه, وقد نقل ابن خلكان أن الرشيد قد حجّ تسع مرّات وكان يصلى فى اليوم مائة ركعة، كان أحيانًا يطوف بنفسه متنكرًا فى الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها، ويعتبر عصره العصر الإسلامى الذهبى. هارون الرشيد هو ابن الخليفة محمد المهدى من زوجته البربرية الخيزران بنت عطاء، التى كان لها نفوذ كبير فى الدولة, وتلقى تعليمه على يد العالم على بن حمزة بن عبد الله الأسدى الكوفي عالم النحو المعروف بالكسائى، الذى ظل معه حتى وفاته، وعندما أصبح هارون شابًا يافعًا عينه والده قائدًا فى الجيش الذى يضم العديد من القواد الكبار وأمراء الدولة، وكان عمر هارون وقتها لا يتجاوز الخمسة عشر عامًا. بويع الرشيد بالخلافة فى مثل هذا اليوم عام 786م، بعد وفاة أخيه موسى الهادى، وكانت الدولة العباسية حين آلت خلافتها إليه مترامية الأطراف متباعدة تمتد من وسط آسيا حتى المحيط الأطلسى، معرضة لظهور الفتن والثورات، تحتاج إلى قيادة حكيمة وحاسمة يفرض سلطانها الأمن والسلام، وتنهض سياستها بالبلاد، وكان الرشيد أهلاً لهذه المهمة الصعبة فى وقت كانت فيه وسائل الاتصال صعبة، ومتابعة الأمور شاقة. بتولى الرشيد الحكم بدأ عصرًا زاهرًا كان واسطة العقد فى تاريخ الدولة العباسية، التى دامت أكثر من خمسة قرون، ارتقت فيه العلوم، وسمت الفنون والآداب، وعمَّ الرخاء ربوع الدولة الإسلامية. ولقد أمسك هارون الرشيد بزمام هذه الدولة وهو فى نحو الثانية والعشرين من عمرهِ، فأخذ بيدها إلى ما أبهر الناس من مجدها وقوتها وازدهار حضارتها. اهتم هارون الرشيد بالإصلاحات الداخلية فبنى المساجد الكبيرة والقصور الفخمة وفى عهده استعملت القناديل لأول مرة فى إضاءة الطرقات والمساجد، اعتنى الرشيد أيضًا بالزراعة وتأسيس نظامها، فبنت حكومته الجسور والقناطر الكبيرة وحفرت الترع والجداول الموصلة بين الأنهار، وأسس ديوانًا خاصًا للإشراف على تنفيذ تلك الأعمال الإصلاحية، ومن أعماله أيضًا تشجيع التبادل التجارى بين الولايات وحراسة طرق التجارة بين المدن، وقد شيّد مدينة الواقفة قرب مدينة الرقة على ضفاف الفرات لتكون مقرًا صيفيًا لحكمه. كان الرشيد رغم كل هذه الأعمال العظيمة التى قام بها يشعر فى قرارة نفسه بقلة الحيلة أمام المنافسات والتيارات الخفية فى داخل مملكته، وكان ولداه الأمين والمأمون يضمران النقمة لبعضهما البعض، ومن ورائهما حزبا العرب والفرس ينتظران خاتمة الرشيد ليستأنفا نضالهما من جديد، لذلك كان الرشيد فى أواخر أيامه وحيدًا حزينًا يخفى علته عن الناس، إذ يؤثر عنه أنه كشف عن بطنه لأحد أصدقائه فإذا عليها عصابة من حرير ثم قال له: "هذه علة اكتمها عن الناس كلهم وكل واحد من ولدى على رقيب وما منهم أحد إلا وهو يحصى أنفاسى ويستطيل دهرى"، واشتدت العلة بالرشيد وهو فى طريقه إلى خراسان للقضاء على ثورة رافع ابن الليث فتوفى بمدينة طوس (مشهد الحالية فى شمال شرق إيران) ودفن بها فى جمادى الآخر فى سنة 193 ه (809 م).