قدر لى فى بداية حياتى العملية أن عملت فى القضاء العسكرى لمدة سنتين أثناء فترة تجنيدى كضابط احتياط، وهى فترة أعتز بها واكتسبت خلالها خبرات مهمة ومفيدة، وقد ثارت مؤخرًا أزمة بين اللواء عادل المرسى، رئيس هيئة القضاء العسكرى، ويؤازره اللواء ممدوح شاهين مساعد وزير الحربية للشئون القانونية، وبين المستشار الغريانى رئيس اللجنة التأسيسية، ويؤازره الدكتور جمال جبريل أستاذ القانون الدستورى وغالبية الحقوقيين والمتخصصين من أعضاء اللجنة، حيث يصر العسكريون على وضع القضاء العسكرى ضمن باب السلطة القضائية، بينما يرى المستشار الغريانى وأنصاره أن رجال القضاء العسكرى هم بالدرجة الأولى ضباط ينتمون إلى القوات المسلحة وليسوا مستقلين بالقدر الذى يمكن معه اعتبارهم من رجال القضاء، ومن ثم فيجب وضع القضاء العسكرى ضمن القسم المخصص للقوات المسلحة باعتباره جزءًا منها . والغريب فى الأمر أنك إذا نظرت بعمق فى أصل المشكلة لوجدت أن كلا الطرفين معه الحق، فالعسكريون معهم الحق فى المطالبة باعتبار القضاء العسكرى جزءًا من السلطة القضائية فى الدولة ما دام يفصل فى المنازعات المعروضة عليه بأحكام نهائية واجبة النفاذ وذات حجية مانعة من إعادة نظر النزاع أمام أى جهة قضائية أخرى فى الدولة، والحقوقيون معهم كل الحق فى عدم اعتبار القضاء العسكرى جزءًا من السلطة القضائية فى البلاد لأن أفراده يحملون الرتب العسكرية بما تفرضه عليهم من التزام طاعة الرؤساء، الأمر الذى يفقدهم أول وأهم صفات القضاء وهو الاستقلال، وإذا كان الطرفان المتنازعان كلاهما معه الحق فمن المخطئ وكيف يمكن التوفيق بينهما؟ الحقيقة أن الخطأ يكمن فى كيفية هيكلة القضاء العسكرى لمواجهة الاختصاصات القضائية المسندة إليه، وتصحيح الخطأ يتطلب إما إعادة الهيكلة وإما تعديل الاختصاصات المسندة إليه، وإعادة الهيكلة مقصود بها إسناد العمل القضائى فيها إلى قضاة مدنيين مستقلين ولا مانع بالطبع من الاستفادة من القضاة العسكريين الحاليين بضمهم إلى الهيئة القضائية كما يحدث مع ضباط الشرطة فيتحولوا إلى قضاة مدنيين غير تابعين للقوات المسلحة متمتعين بالاستقلال اللازم للقضاء وننتفع بخبرتهم الطويلة فى هذا المجال وعلى أن تلغى مسألة التصديق على الأحكام من الضابط المختص، وفى هذه الحالة يمكن اعتبار القضاء العسكرى بكل تأكيد جزءًا لا يتجزأ من السلطة القضائية فى البلاد، وأما تعديل الاختصاصات فنقصد به سحب الاختصاص القضائى بنظر قضايا القانون العام والاكتفاء بنظر المخالفات الانضباطية العسكرية على أن يكون من حق المحكوم عليه أن يتظلم من الأحكام الصادرة بعقوبة سالبة للحرية أمام المحاكم الجنائية العادية، ومن غيرها من الأحكام أمام القضاء الإدارى، ولكى نكون منصفين يجب أن نعترف بأن كلا الحلين تعترضه مشاكل كثيرة ومعقدة يصعب بسطها لضيق المقام، ولكن نشير بإيجاز إلى أن الحل الأول يعنى إلغاء فكرة وجود قضاء عسكرى من حيث الأصل واستبداله بدوائر متخصصة من القضاء المدنى، بينما الحل الثانى يعنى الإبقاء على مسمى القضاء العسكرى مع تفريغه من مضمونه الحالى، وربما يكون الحل الأمثل للمشكلة هو الجمع بين الأمرين معًا، فإذا علمنا أن هيئة القضاء العسكرى تتكون من ثلاث إدارات: إدارة المدعى العام العسكرى، إدارة المحاكم العسكرية، إدارة القضاء العسكرى، فإنه يمكن أن تحال الإدارتان الأوليان للعمل المدنى مع الإبقاء على الإدارة الثالثة لتؤدى دور المحاكمات الميدانية المتعلقة بالجرائم الانضباطية بالضوابط السالف ذكرها، ولتؤدى الدور الذى تؤديه الشئون القانونية لأى وزارة أو مصلحة حكومية. إن أخشى ما أخشاه أن يكتشف الطرفان المتنازعان عمق المشكلة المطروحة وتداعياتها فيطلبان السلامة ويكتفى رجال الجيش ببقاء الحال على ما هو عليه مع القبول بالنص عليه فى الفصل الخاص بالقوات المسلحة، ويرتاح الحقوقيون إلى هذا التنازل ويكفون عن المطالبة بإعطاء القضاء العسكرى الاستقلال الكامل مادام مكلفاً باختصاص قضائى أصيل، فينتقل الوضع المعيب إلى الدستور الجديد، يجب على المستشار الغريانى وزملائه أن يغتنموا فرصة إعداد الدستور الجديد ليصححوا أوضاع القضاء العسكرى لتتفق مع النظم القانونية والدستورية الصحيحة من أجل مصر . [email protected]