ربما لست وحدي الذي لفت نظره ذلك الكم الكبير من الروايات الجديدة التي صدرت بالتزامن مع الدورة الخمسين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب والتي بشرتنا أغلفتها بعدد كبير من الروائيين والروائيات الجدد وهو أمر بلا شك يسعد كل المتابعين للشأن الثقافي إذ ظلت قلة الإصدارات في بلادنا إحدى الأزمات الثقافية التي كنا ولا زلنا نشكو منها مقارنة بهذا الكم الهائل من الإصدارات في دول المجتمع المتقدم خاصة وأن كم الإصدارات أصبح واحدا من معايير التنمية البشرية المعتمد في مؤشرات التنمية العالمية كونه يعكس حالة حرية الرأي والتعبير في أية دولة. وبكل تأكيد كان يمكن أن تكتمل هذه السعادة لو أن صدور هذا الكم من الروايات الأدبية كان جزءا من حراك ثقافي شامل يعبر عن نهضة ثقافية وفكرية يكون الأدب بعمومه "رواية وشعرا وقصة.. ألخ" أحد أعمدتها غير أن هذا الطوفان الروائي – إن صح التعبير - وبكل أسف جاء تغريدا خارج السرب يكشف عن أزمات في واقعنا الثقافي والفكري أكثر مما يعبر عن حالة ازدهار لا زالت مفقودة . وهنا يجدر بي أن أبدي عددا من الملاحظات حول هذه الظاهرة لا أدعي أنها الصواب المطلق بقدر ما هي محاولة لإلقاء حجر في ماء الثقافة الراكد تحاول أن تستفز المعنيين والمهتمين للوقوف على حقيقة واقعنا الثقافي في السنوات الأخيرة. *الملاحظة الأولى وتتعلق بالأجواء السياسية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية التي يدرك الجميع أنها انعكست سلبا على العمل الثقافي والفكري فباتت عملية التأليف في المجالات غير الأدبية من ناحية رهنا لاعتبارات تتعلق بتوجهات المؤسسات والهيئات القائمة على تمويل إصدار المؤلفات الجديدة ومن ناحية أخرى أصابت الكثير من الكتاب والمؤلفين بحالة من الفزع خشية الوقوع في براثن حالة الاستقطاب السياسي الحادة التي سادت المجتمعات العربية وفي مقدمتها مصر الأمر الذي دفع في نهاية الأمر عددا لا بأس به من المؤلفين والباحثين والكتاب إلى الإحجام عن تقديم ما يمكن أن يكون سببا في تصنيفهم ومن ثم تعرضهم لمواجهة مصاعب أو المعاناة من إشكاليات هم في غنى عنها. *الملاحظة الثانية وتتعلق بثمار الدعايا المكثفة وتركز مفهوم القراءة والثقافة حول الرواية والأدب بمختلف أشكاله حتى باتت الأسماء المحفوظة والتي يتم ترديدها على ألسنة الذين يدعون القراءة في أغلب الأحيان لا تتجاوز أسماء الأدباء المصريين المعروفين " إحسان عبد القدوس – عباس العقاد – توفيق الحكيم – يحي حقي - طه حسين.. ألخ " والذين وعلى الرغم من أن لبعضهم كتبا أخرى فكرية إلا أن التركيز كان دائما على إسهاماتهم الأدبية.. ومن ثم وفضلا عن الأجواء السياسية السابق ذكرها كانت أسبابا رئيسية في أن يكون جل اهتمام الشباب الراغب في القراءة منصبا في الفترة الأخيرة على الأدب والرواية وهو ما كان له انعكاسه على حركة بيع الإنتاج الأدبي الأمر الذي أغرى دور النشر والمكتبات بالاهتمام بها أكثر من غيرها. الملاحظة الثالثة وتتعلق بالروائيين الجدد الذين جلهم من الشباب وهو أمر بقدر ما يبشر بمستقبل جيد إلا أنه يحتاج لوقفة وتأمل ذلك أنه ليس صحيحا أنه بمقدرونا أن نمنح كل هؤلاء المنتجين لروايات منشورة لقب أديب أو روائي إذ لا يعدو ما يقدمه بعض هؤلاء عن حواديت فارغة لا تمت للأدب بشئ لا على مستوى الصياغة واللغة ولا على مستوى المضمون والفكرة إذ جاء إقبال هؤلاء على الإنتاج الروائي نتيجة استشعارهم - وبعد أن قدر لهم قراءة العديد من الروايات بمنظور سطحي يخلو من العمق والرؤية النقدية لمرامي الروائي الحقيقي - أنهم امتلكوا التكنيك الفني للكتابة فشرعوا في الكتابة التي خلت من مراعاة الكثير من الاعتبارات التي على أساسها يمكن أن يكون للرواية قدرها وقيمتها من مثل الرمزية والاسقاطات والتأملات الفلسفية وضخ المضامين الفكرية والأبعاد الأيدلوجية والفهم الشامل لأبعاد شخصيات الرواية والتي يحرص كل أديب ناضج على توصيلها إلى القراء لتكون أغلب روايات هؤلاء مجرد حدوتة ينتهي أثرها بانتهاء قراءتها ونسوا أن كاتب الرواية لابد وأن تكون لديه تراكمات ثقافية وفكرية وتاريخية وفنية لتتجاوز رواياته حواديت "جدي وجدتي". الملاحظة الرابعة وتتعلق بأثر الأجواء العامة على الكتابات غير الأدبية فهذه الأجواء لم تكن فقط سببا في إحجام الكتاب ولكنها أيضا كانت سببا في إحجام القراء عن تداول هذه الكتب لأسباب عديدة يمكن أن تتباين الرؤى حول ترتيبها لكنها في النهاية تضافرت جميعا على أن تقلل من الإقبال على شراء الكتب غير الأدبية. الملاحظة الخامسة وهي ذات وجه مادي بحت فالتأليف الروائي ربما لا يكلف صاحبه على المستوى المادي مقارنة بالتأليف غير الأدبي الذي يحتاج إلى مصادر ومراجع أصبحت مكلفة للغاية وترهق الكثير من الكتاب ماديا ومن ثم فإن صاحب أي مؤلف غير أدبي ينتظر أن يتلقى مقابلا ماليا عندما يقدم على أي دور نشر لإصدار مؤلفه غير أنه يفاجئ في الكثير من الأحيان بأن هذا ليس أمرا يسيرا بل ومنعدما أيضا وهو ما أسفر في النهاية عن ظواهر ثقافية سلبية يعلم بها كل المهتمين بالعمل الثقافي فنجد الكثير من الكتاب والمؤلفين وقد احتفظوا بمؤلفاتهم في أدراج مكاتبهم دون سعي لتقديمها لدور نشر لن تمنحهم مقابلا ماديا في انتظار تحسن الظروف وتغير الأحوال ومنهم من أوقف استكمال مشاريعه الفكرية أو أنه من الأساس لم يجرؤ على الشروع في تنفيذها رفضا لابتزاز دور النشر التي يحلو لبعضهم بتسميتها دور "النشل" بل إن بعضهم اضطر آسفا إلى أن يساهم بجزء من تكلفة طباعة مؤلفه رغبة منه في أن يرى عمله الفكري النور بعد طول تعب وسهر عليه أو حتى استجابة لإلحاح داخلي في أن يسجل لنفسه إصدار كتاب أو أكثر فلا تصيبه الحسرة على أن العمر مر به دون تحقيق ذلك. وبالطبع كانت نتيجة كل هذا أن البعض من الكتاب الكبار الذين يمكن لكتاباتهم بالفعل أن تساهم إسهامات فكرية تمثل إضافة حقيقية لم يعد يقدموا على كتابة أية مؤلفات واكتفوا بكتابة المقال هنا أو هناك حيث الجهد الأقل والمكافآت المالية السريعة التي تعينهم على أعباء الحياة المتزايدة وهو ما يكبدنا خسارة فادحة والتي ستنعكس سلبا على واقعنا في المدى القريب. وهنا وللتدليل على خطورة ما أطرحه تسعفني ذاكرتي بما أعرفه عن كاتب كبير له العديد من الكتب والمؤلفات القيمة اضطر وللأسف الشديد إلى أن يقوم بنفسه على توزيع كتبه – التي تمثل عوائد بيعها دخله المادي الوحيد – على باعة الصحف على أرصفة الشوارع فيعطي لكل بائع عددا من النسخ مانحا إياه نسبة توزيع أعلى من تلك التي يحصل عليها من شركات التوزيع المعروفة ليمر عليهم بعد كل مدة لتحصيل نسبة المبيعات فيتعيش منها.