قد تكون مصر فى لحظة فارقة من تاريخها بعد أن اشتد لف الحبل حول عنق سوريا، الأمن القومى لمصر فى الشمال، ومخاطر التقسيم العرقى فى السودان بين الشمال والجنوب والغرب، الأمن القومى لمصر فى الجنوب، وبعد تفاقم العنف فى شبه الجزيرة العربية واشتداد المعارضة المسلحة من أسفل من قوة الضغط السياسى والأمنى من أعلي. وقد تكون حوادث الإسكندرية الأخيرة بداية النهاية فى النظام السياسى فى مصر الفتنة الطائفية من أجل التقسيم وتصاعد النداء بالدولة القبطية فى مصر من أقباط المهجر وصداهم المكتوم فى الداخل، بعد الدويلات الشيعية والسنية والكردية فى العراق، والمارونية والإسلامية فى لبنان، والعلوية والسنية فى سوريا، والعربية والبربرية فى المغرب العربي، والعربية والزنجية فى السودان، والنجدية والحجازية والحضرموتية فى شبه الجزيرة العربية، والسنية والشيعية فى الخليج، والزيدية والشافعية فى اليمن حتى تصبح إسرائيل هى أكبر دولة عرقية طائفية فى المنطقة وسط فسيفساء من هذا النوع، تأخذ شرعية جديدة أبدية من طبيعة الجغرافيا السياسية للمنطقة بدلا من أساطير التكوين الأولى التى أعطاها لها هرتزل فى الدولة اليهودية فى أواخر القرن التاسع عشر، أساطير أرض المعاد، وشعب الله المختار. ومن هنا تأتى أهمية الانتخابات التشريعية القادمة من أجل معركة الحسم. هل تستمر مصر فى سياساتها السابقة على مدى ثلاثة عقود من الزمان فى الجمهوريتين الثانية والثالثة بعد التحول مائة وثمانين درجة فى سياساتها من مناهضة الاستعمار والصهيونية إلى التحالف والاعتراف بهما، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن الإنتاج إلى الاستهلاك، ومن التصنيع إلى الاستيراد، ومن التخطيط إلى الخصخصة، ومن الاستقلال الوطنى إلى التبعية السياسية، ومن النزاهة إلى الفساد، ومن الحضور على الساحة الإقليمية والدولية إلى الغياب، ومن الجمهورية إلى الملكية، ومن تحالف قوى الشعب العامل إلى الإقطاع الممثل فى رجال الأعمال؟ أم هل تعود مصر إلى مسارها التاريخي، قائدة التحرر فى الوطن العربي، وبؤرة وحدته وتنميته، متحالفة مع القوى الوطنية فى العالم الثالث، باندونج وعدم الانحياز والقارات الثلاث، ورائدة التجارب التنموية فى الدول النامية؟ يمثل الحزب الحاكم انحراف مصر عن مسارها الطبيعي. وتمثل قوى المعارضة الموحدة عودة مصر إلى مسارها التاريخي. كانت الانتخابات الرئاسية السابقة معروفة نتائجها سلفا مع بعض الحياء من 99.9% إلى 86% بالرغم من تعديل الدستور للانتخاب من بين أكثر من مرشح. فجاء الانتخاب فى صورة استفتاء للزعيم الأوحد، وللرئيس الأبدى على مدى أكثر من ربع قرن، مع توريث الحكم فى أبنائه من بعده وهو ما لم يفعله حتى الأنبياء قال إنى جاعلك للناس إماما. قال ومن ذريتي. قال لا ينال عهدى الظالمين فانحسر عنها الناس. وغاب المشاركون. ولم يتعد المنتخبون أكثر من 23% من شعب مصر. وسمع شعب مصر نداء المعارضة بالمقاطعة. وأصبح الرئيس الآن رئيس الأقلية، وليس رئيس الأغلبية. أما الانتخابات التشريعية القادمة فهى مختلفة تماما إذ تمثل معركة فاصلة بين المعارضة الموحدة التى تعبر عن تطلعات شعب مصر فى مواجهة الحزب الحاكم الذى نهب مصر وأضاع كرامتها. لا شيء حُسم فيها من قبل. عيون منظمات المجتمع المدنى وبعض المراقبين الدوليين عليها. والتحذير من التزوير، وتدخل أجهزة الدولة، والتلاعب بكشوف الانتخابات قد بدأ. والحزب الحاكم تتصارع أجنحته بين رعيل قديم بقيادة الأب، ورعيل جديد بقيادة الابن، بين الذين نهبوا مصر حتى التخمة والذين يستعدون لنهب مصر، فقد جاء دورهم. ومجلس نيابى قوى بالمعارضة خير من مجلس يستولى فيه الحزب الحاكم على كل مقاعده باستثناء ديكور بسيط من أحزاب المعارضة المحظورة كالإخوان أو الشرعية كالتجمع والوفد والعربى الناصري. وربع المقاعد للمعارضة حوالى مائة، يقدمون البديل، خير من معارضة هامشية لا تؤثر فى تغيير سياسات الحزب الحاكم. لقد تعود المصريون على السلبية السياسية وعدم المشاركة فى الانتخابات على مدى نصف قرن. كان الزعيم فى الجمهورية الأولى يعبر عن طموحات الشعب ويحقق أمانيه. ووثقت الجماهير به، بالزعامة المباشرة التى تجُب المؤسسات، كما يحدث دائما للقادة العظام فى التاريخ مثل محمد علي. وفى الجمهورية الثانية عندما أصبحت حرب أكتوبر آخر الحروب، والسلام اختيارا استراتيجيا، والرأسمالية ليست جريمة، وعربة وفيللا لكل مواطن، والكترون لكل جندي، تم تخدير الشعب على أمل الخروج من عنق الزجاجة. واستمر نهب مصر فى الجمهورية الثالثة كسياسة رسمية من بيع للقطاع العام حتى الشركات الرابحة، وتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، والفساد والعمولات، والتلاعب بالأسواق، والاحتكار، رأسمالية بلا قيم رأسمالية. فعزف الشعب عن المشاركة السياسية بالرغم من وجود أحزاب للمعارضة ابتداء من المنابر حتى الأحزاب الورقية. ثم استيقظ الشارع المصرى وبدأت حركة الجماهير استئنافا للهبات الشعبية المتكررة ابتداء من أزمة مارس 1954، ومظاهرات الطلاب ضد أحكام الطيران فى 1968، واعتصام ميدان التحرير مطالبين بساعة الحسم فى 1971، ثم الهبة الشعبية فى يناير 1977، ومظاهرات الأمن المركزى فى 1986، والمظاهرات الضخمة ضد العدوان الأمريكى الأول على العراق فى 1991، والثانى عام 1998، وتأييد الانتفاضة الفلسطينية الأولى فى 1987، والثانية فى عام 2000. ونشأت حركات تلقائية وصلت إلى أربعة عشر حركة وفى مقدمتها الحركة الوطنية من أجل التغيير وكفاية. ونشطت منظمات المجتمع المدني، ووسعت نشاطها خارج منظور حقوق الإنسان والمرأة الضيق إلى الفضاء الاجتماعى والسياسي. وثقت جماهير شعب مصر بالزعيم فى الجمهورية الأولي، وتخلصت من المقامر فى الجمهورية الثانية، والآن تنتفض ضد الإدارى فى الجمهورية الثالثة. قاد الربان الأول السفينة إلى بر الأمان وثقبها المقامر الثاني. والآن تغرق. والآن تعود مصر إلى سابق عهدها قبل الثورة، الحركة الوطنية فى الأربعينيات، ولجنة الطلبة والعمال فى 1946 والتى تشبه وحدة قوى المعارضة الآن. الرهان اليوم على حركة الشارع المصرى والقوى الوطنية فيه، أحزاب المعارضة، التجمع والناصرى والوفد، والأحزاب تحت التأسيس الوسط والكرامة، والقوى السياسية المحظورة، الإخوان، فى مواجهة تراجع الحزب الحاكم وانقساماته وصراعاته الداخلية على قسمة الغنائم ما شافوهمش وهمه بيسرقوا، شافوهم وهمه بيتحاسبوا. لذلك هرب البعض، واعتبر نفسه مستقلا حتى لا يلوَّث بمساوئ الحزب الحاكم ومفاسده. وقد يعودون إليه لتقويته ولأخذ نصيبهم من الغنائم. فالمستقل الذى ينجح بفضل استقلاله يخون الأمانة التى أولاها ناخبوه إذا ما عاد إلى الحزب الحاكم. ويقبلهم الحزب الحاكم لتوسيع حضوره فى المجلس النيابى ضد أحزاب المعارضة. المشاركة الشعبية فى الانتخابات النيابية القادمة ضرورة وطنية. ويستطيع المواطن أن يمارس مواطنته ويدافع عن وطنه بالمقاطعة مرة كما حدث فى الانتخابات الرئاسية الماضية، وبالمشاركة مرة أخرى كما هو الحال فى الانتخابات القادمة. وقد يضع الحزب الحاكم العقبات مثل التلاعب بالكشوف، وتكرار أسماء الأحياء، وإضافة أسماء الأموات، وتعذيب المواطن للتعرف على دائرته الانتخابية. فالكشوف لم تعلن بعد فى الأقسام. وقد يستعمل نواب الحزب الحاكم كل أساليب الإرهاب التى قد تصل إلى حد التصفية الجسدية لمرشحى المعارضة أو لوضع العقبات الإدارية أمامهم، وإعاقة دعاياتهم الانتخابية. فنواب الحزب الحاكم يدافعون عن الثروة والسلطة فى آن واحد. ولن يتركوا الشعب لاختيار حر لمرشحيه. إن المشاركة الفعالة فى الانتخابات التشريعية القائمة هى الطريق إلى حصار الحزب الحاكم، وإقناع النظام السياسى أن الطغيان له حدود، وأن تزوير إرادة الشعب لم يعد ممكنا، وأن الشعب قد أخذ مصيره بيده بعد أن تساهل فى حقه على مدى ثلاثة عقود من الزمان. وهذا ما يتطلب جهدا زائدا من الشعب للمشاركة فى الانتخابات، وتجاوز ما تعود عليه من السلبية والمقاطعة. كانت إدارة الظهر للحاكم أحد عوامل المقاومة. والآن مواجهة الحاكم وجها لوجه هو السبيل للخلاص منه. إن حركة التاريخ قد أسرعت خطاها مع قوى المعارضة الوطنية ضد الحزب الحاكم. ولم يبق للنظام السياسى إلا أن يدرك مسارها. فإما أن يتحالف مع الشعب، ويحرص على مصر التاريخية وثوابتها فى الاستقلال الوطنى ودور مصر الإقليمى والدولي، وإما أن يرحل كما رحل حكام مصر السابقين، سعيد وتوفيق. ومازال رمسيس وأحمس وصلاح الدين ومحمد على وعبد الناصر فى الذهن والذاكرة، يحركون الخيال والوعى والضمير. -------------------------------------------------------------------------------------------- العربي