العيد له أبعاد ثقافية واجتماعية واقتصادية مهمة، سواء فى الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية للدولة، أو فى التكافل والعدل الاجتماعى ونشر قيم المحبة والتعاون بين الناس، أو فى البيع والشراء والتجارة الموسمية، غير أن أخطر أبعاده على الإطلاق هو البعد السياسى. فالتوظيف السياسى لتلك المناسبة الدينية التى تشهد أكبر تجمع بشرى ينزل الساحات والميادين والمساجد دفعة واحدة وفى توقيت واحد، كان ولا يزال يجرى على قدم وساق.. وبالطبع فإن هذا التوظيف غير مرتبط بعصر معين أو سلطة معينة دون أخرى بل لو استعدنا التاريخ لوجدنا أن كل أشكال السلطة التى مرت بها بلداننا العربية والإسلامية كانت تستغل تلك المناسبة فى الترويج لإنجازاتها السياسية، وللدعوة للسلطان القائم ودفع الناس لتقديم الطاعة وإعلان الولاء له.. وربما كان الفاطميون هم أول من ابتدع فكرة إقامة الولائم وتقديم الحلوى والملابس المجانية والكعك المختوم بعبارة "كل واشكر مولاك"، لكنهم بالتأكيد لم يكونوا آخر سلطة تستفيد من هذا الأمر.. فكل السلطات التى جاءت من بعدهم استفادت من هذا السلوك الذى ابتدعوه.. فعلى سبيل خصص المماليك رواتب لموظفيهم وجنودهم فى تلك المناسبة، وأطلق العثمانيون بعض المساجين وقدموا الهدايا للناس ابتهاجًا بها، ولدفع الحشود الكبيرة لإعلان الولاء للنظم القائمة وضمان طاعتها.. ولعل ما فعله الرئيس محمد مرسى بذهابه للصلاة فى أكبر المساجد المصرية قاطبة، مسجد عمرو بن العاص، والذى يسع لعشرات الآلاف من المصلين، لا يخرج كثيراً عن هذا التوظيف السياسى للمناسبة، فى محاولة للاقتراب أكثر من الناس الذين أوصلوه لسُدة الحكم.. وهو ما يعكس قراءة سياسية جيدة منه للمناسبة، عكس قراءة الرئيس السابق لها تماماً. وفى هذا السياق، شهد عيد الفطر هذا العام أشكالاً متعددة للتوظيف السياسى للمناسبة.. ففيما يتعلق بالرئيس مرسى تم ابتداع أربعة أشكال لتوظيفها فى صالحه. أولها، تسريب معايدة على الطريقة الشعيية عبر رسائل المحمول بأن يبادر أحد المعيدين بالقول: "مبارك عليكم العيد، فيرد الآخر مرسى على التهنئة، ناهيك عن رسائل أخرى متعددة فى هذا الإطار. ثانيها، تحذير خطباء المساجد من النزول فى مظاهرات 24 أغسطس 2012 مرددين أن هدفها التخريب وإسقاط الرئيس. ثالثها، السلاسل البشرية التى قام بها شباب الإخوان وحزب الحرية والعدالة لتنظيم عملية دخول وخروج المصلين لمسجد عمرو بن العاص، وقيادتهم للهتافات التى انطلقت حول المسجد تردد "الشعب يؤيد الرئيس" و"ارفع راسك فوق رئيسنا مرسى". رابعها، تركيز خطباء المساجد على الدعاء للرئيس بصورة لم يسبق لها مثيل طيلة الثلاثين عامًا من عهد مبارك. والتركيز على نبذ الفرقة والتوحد حوله وضرورة مناصرته، مستغلين المناسبة فى الدعاية الجيدة له ولبرنامجه الرئاسى، ودفع الناس للالتفاف حول قراراته. أما فيما يتعلق بحزب الأكثرية، وهو حزب الحرية والعدالة، فقد انتشر أعضاؤه عبر ساحات الجمهورية، كما هى عادتهم فى العيد، مطالبين الناس بمساعدة السلطة المدنية المنتخبة والهجوم على الراعين لثورة 24 أغسطس. ولعل المنشور المهم والمركز الذى وزعوه فى العيد، يلخص هذا التوظيف السياسى للمناسبة.. فتحت عنوان "عيد سعيد وعهد جديد" انطلق البيان يوجه الأنظار للإنجازات المشرفة التى قاموا بها خلال شهر رمضان، من إنجازهم لمشروع وطن نظيف، ومن إتمام عملية نقل السلطة من العسكر للسلطة المدنية بإلغاء الإعلان الدستوى المكمل.. ولعل اقتباس الجملة الآتية من البيان، "كما أن علينا نحوها، يقصد السلطة المدنية المنتخبة، واجب التوحد لدعمها وتأييدها، وأن نكون لها صفاً واحداً، مساندين لا معاندين، متحملين لا متحاملين، مستبشرين لا منفرين، متعاونين لا متجادلين، مغلبين مصلحة البلد العامة على أية خلافات جزئية خاصة"، يلخص ما هو المطلوب من الناس فى هذه الفترة، من إعانة القيادة السياسية لإزالة تراكمات العهود الماضية، على حد تعبيرهم، وبناء ركائز النهضة الآتية. أما فيما يتعلق بالقوى السياسية الأخرى، يسارية وليبرالية وعلمانية ومدنية واشتراكية وناصرية ووسطية ويمينية وغيرها، فقد تباينت مواقفهم من المناسبة.. فبعضها لم ينشغل بها على الإطلاق، وبعضها، كحزب الوفد وغد الثورة والتجمع، اقتصر أداؤه على تعليق بعض اليافطات فى شارع التحرير ورمسيس لتهنئة الناس بها. وبعضها، كحزب مصر الديمقراطى الاجتماعى، ركز على منطقة العباسية. فى حين راحت حركات 6 إبريل والاشتراكيين الثوريين يقدمون أنفسهم بقوة للناس، غير أن ما فعله حزب الدستور تحت الإنشاء، من توزيعه للمنشورات والبوسترات للتعريف ببرنامجه عبر المحافظات المصرية، يعد هو المثال الأبرز للتوظيف السياسى للمناسبة على حد تعبير القوى السياسية المنافسة.. فنزوله فى العيد بهذا الشكل القوى وهو تحت الإنشاء، جعل القوى السياسية المسيطرة تتخوف من سحب البساط من تحت قدميها.. لذا صبت تصريحاتها المضادة حول الطعن فى صدقية هذا النزول، دافعين الحزب الوليد للانشغال بالرد على مدى ليبراليته من عدمها، ومدى إيمانه بفصل مسألة السياسة عن الدين، كشعار يرفعه الحزب على لسان رئيسه البرادعى. لكن يظل اعتقاد الإسلاميين بعدم الخوف من نزول التيارات االيبرالية واليسارية، هو مصدر الثقة الوحيد فى ضمان ولاء هذا الشارع لها لسنوات عدة قادمة.. باعتبار أن تلك الأحزاب لا زالت تقدم خطاباً سياسياً معادياً لثقافة الشارع المصرى الذى خبروه.. لكن يظل تخوفهم من خروج مجموعات منهم وتشكيلها لأحزاب سياسية، كحزب أبو الفتوح تحت الإنشاء، هو المأزق الحقيقى للحزب الحاكم الآن.. على اعتبار أن هؤلاء خبروا آلية العمل بالمساجد وفى الأعياد ويعرفون كيفية إدارتها واستثمارها، وهو الأمر الذى سيخصم من نجاحاتهم. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة