فى أغسطس من عام 2008، قررت دار النشر الأمريكية "راندوم هاوس"، سحب رواية "جوهرة المدينة"، عن أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها كتبتها الروائية الأمريكية "شيرلى جونز"، وذلك قبل صدورها بعشرة أيام. المسئول فى دار النشر الأمريكية "توماس بيرى"، قال آنذاك لرويترز: "تسلمنا نصيحة حذرة، إن إصدار الرواية ربما يسىء للمسلمين، وربما سيسبب عنفًا من المتطرفين". بالتأكيد كان بإمكان "راندوم هاوس"، أن تكسب الملايين من رواية مثيرة للجدل، غير أنها تصرفت تصرفًا مسئولاً، يتعلق بأمن الولاياتالمتحدة بحسب تقديرها. من المفارقات بالغة الدلالة، أن أستاذة التاريخ بجامعة "تكساس" ب"هيوستن" البروفسيرة "دينس سبيلبيرغ"، انتقدت الرواية ووصفتها ب"القبيحة" و"السخيفة"، فيما دافعت عنها "المسلمة" المثيرة للجدل الأمريكية باكستانية الأصل "إسراء نعمانى" صاحبة كتاب "وحيدة فى مكة" والتى تتباهى علناً بأنها أنجبت ولدًا من علاقة محرمة، وقالت إن رواية "جوهرة المدينة" ما هى إلا رواية، تستهدف تعريف الإسلام لغير المسلمين بطريقة ميسرة! والحال أن الفارق بين "سبيلبيرغ" الأمريكية الأصل، وبين "النعمانى" الباكستانية الأصل وهو الفارق بين "العفوية" فى التعبير، و"التزلف" للمنظرة ولفت الأنظار وادعاء التحرر والتنوير ومفارقة العالم الإسلامى "الظلامى".. وكله له "ثمن". المؤسسات الكبرى والدول بتجلياتها الرسمية، تتعالى عادة على انفعالات الشارع، وتجتهد فى حدود ما تعتقد أنه "تصرف مسئول"، حتى وإن لم يعجب قطاعًا ليس بالقليل من الرأى العام، وخرج عما استقر فى ضميرها من تقاليد وأعراف، تكون عادة ثمرة تجربتها السياسية والإنسانية عبر التاريخ. فرنسا بعلمانيتها اللائكية "المتطرفة"، لم تتحمل الحرية الشخصية "الحجاب" ولا حرية التعبير (مصادرة الحلال والحرام للقرضاوى عام 1994) ثم مصادرتها ل"أطلس الخلق" التركى فى فبراير عام 2007.. وكلها إجراءات كانت صادمة لما استقر عليه من انطباع بشأن "طهارة" التجربة الفرنسية باعتبارها الخبرة النموذج ومصدر الإلهام لكل قوى "التنوير" فى العالم والتى تنزلها منزلة التقديس والعصمة من ارتكاب ذات "الكبائر الثقافية" أو السياسية، التى اعتادت عليها السلطات الرسمية "الظلامية" فى العالم الثالث! العلمانيون فى العالم العربى، كفوا على المصادرة بالتعبير المصرى "ماجورا"، لأنه يطعن ابتداءً فيما اعتبر "مسلمة" من مسلمات العلمانية، باعتبارها مذهبًا محايدًا، إزاء المعتقدات والحريات العامة من جهة، ويعطى للأنظمة فى العالم الإسلامى "المبررات المرجعية" التى تسوغ لها مطاردة أصحاب الرأى من جهة أخرى، وهى المخاوف التى جعلت المثقف العلمانى العربى، يميل إلى التزام الصمت، جلبًا ل"الستر" ودرءًا ل"الفضيحة". وفى الوقت الذى اعتبره المسلمون "عملاً عدوانيًا"، اعتبرته باريس الرسمية، "عملاً مسئولاً".. فانتشار الحجاب يهدد هوية فرنسا المسيحية، وكتاب القرضاوى بمضمونه الفقهى يعمق من خصوصية وتمايز الحالة الإسلامية فى فرنسا، وينعش الشعور بالانتماء والولاء للأممية الإسلامية العابرة للحدود، و"أطلس الخلق"، ينقض نظرية داروين "البقاء للأقوى"، والتى تعتبر المبرر الأخلاقى للدول الاستعمارية الكبرى، لاستخدام القوة فى العلاقات الدولية، ويسوغ لها الحق فى اتباع سبيل "الإبادة الجماعية" إذا اقتضى الأمر حال تعثرت مصالحها الاقتصادية بوجود شعب من الشعوب الضعيفة والمستضعفة. الدولة فى الغرب إذن تصادر الكتب والأعمال الإبداعية، والدول فى العالم الإسلامى، تصادر أيضا كتبا ومؤلفات، ربما يكون ثمة فارق فى الدوافع "الحقيقية" للمصادرة بين الأولى والثانية، كأن تكون فى العالم الغربى، بسبب ما تعتقد بأنه تهديد لأمنها القومى، وربما تكون فى العالم الإسلامى لأسباب أخرى نعلمها جميعا لا يكون الأمن القومى من بينها، غير أن التجربة فى الدول التى تعتبر نفسها "رائدة" فى تقديس حرية الرأى والإبداع، تحملنا على الاعتقاد بأنه لا توجد فى العالم كله دولة تسمح لنفسها بأن يُستباح وعيها الجمعى هكذا بدون ضوابط أو أسقف أو حدود وإن بلغت مبلغ الاضطرار إلى تجرع سُم "المصادرة" عن قناعة ورضى. [email protected]