الشيء بالشيء يُذْكر، فالجريمة الوحشية التي ارتكبها عسكريون أمريكيون في حق أطفال ونساء ومدنيين آخرين عزَّل في بلدة حديثة العراقية في تشرين الثاني الماضي ذكَّرتني بجريمة اغتيال رفيق الحريري، وحملتني على إجراء مقارنة، أي على البحث في أوجه الشبه والاختلاف، بين الجريمتين. ولكل من يود المقارنة مثلي بين الجريمتين عليه أولا أن يطَّلع على إفادة شاهدتين، في جريمة الحديثة، هما الطفلة صفا يونس سالم (13 عاما) والطفلة إيمان وليد عبد الحميد (9 أعوام). قالت الطفلة صفا، الناجية من المجزرة التي ارتكبها "المارينز" في منزلها: "تظاهرْتُ بأنني ميتة من خلال تلطيخ جسمي بدماء شقيقي نوري (14 عاما) الذي قُتل إلى جانبي في فراش النوم. لقد قتلوا جميع أفراد عائلتي أمام عينيَّ". أما الشاهدة الطفلة إيمان فغطت رأسها بوسادة مع شقيقها عندما أعدم الجنود الأمريكيون والدتها أمام عينيها، بعدما انتهوا من قتل والدها رميا بالرصاص أمام والدتها في غرفة نومهما. إقرأوا غير مرة إفادتي الطفلتين، وأمعنوا النظر فيهما، فإن فيهما من المعاني ما يُنطق الحجر، ويحوِّل الوحوش إلى بشر مكتملي الإنسانية، فوحشية القتلة المجرمين، الذين نشاركهم القتل والجريمة إذا قلنا إنهم بضعة جنود فحسب، لا مثيل لها حتى في السجل الإجرامي ل "أبو مصعب الزرقاوي"، الذي لا تخجل إدارة الرئيس بوش من دعوة المجتمع الدولي إلى النظر إلى جريمة الحديثة من خلال مقارنة بينها وبين جرائمه، فبئس دولة تريد لنا أن نزن جرائمها بميزان الزرقاوي! في بيان الكذب والخداع والتضليل، يقال لنا إن الجيش الأمريكي في العراق ليس بقوة احتلال؛ لأن وجوده هناك يحظى بشرعية دولية مستمدة من قرارات لمجلس الأمن الدولي في هذا الخصوص، وبشرعية عراقية مستمدة من "حقيقة" أن حكومة عراقية منتخَبة ديمقراطيا هي التي تريد له أن يبقى إلى أن يصبح (ولن يصبح) في مقدورها الاعتماد على نفسها في حفظ الأمن الداخلي والخارجي للعراق. دعونا نصدِّق كذبهم، وننظر، بالتالي، إلى جريمة الحديثة في هذا السياق. إن على الأممالمتحدة (وعلى الحكومة العراقية أيضا) في هذه الحال أن تتولى بنفسها التحقيق في الجريمة، وأن تصدر قرارا، عبر مجلس أمنها، على غرار قرارها الرقم 1559، وأن تدعو إلى إنشاء محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب أولئك، مع إحضار الطفلتين صفا وإيمان بصفة كونهما شاهدتين لن تشهدا إلا بما شاهدتاه، فهما لا تملكان أقل خبرة في كذب الساسة والرؤساء. إنني لن أغالي في تجريم الجنود الأمريكيين الذين ارتكبوا جريمة الحديثة، وغيرها من جرائم قتل الأطفال والنساء، وغيرهم من المدنيين الأبرياء العزَّل، في العراق، فهؤلاء أُرْسلوا إلى حرب ما عاد في مقدورهم الاستمرار في خوضها إلا بوسائل وطرائق وأساليب تصبح بها الجريمة، وليس الحرب، امتدادا للسياسة. لقد فضَّلوا مقارنة جريمة الحديثة بجرائم الزرقاوي، ولكنني أفضل مقارنة جريمة أولئك الجنود بجريمة سيد البيت الزرقاوي الذي أعرب عن "استياءه" من أولئك الذين "يزعمون أن الجنود الأمريكيين يرتكبون فظائع في العراق"، فهذا الذي حدث في الحديثة ليس ب "فظائع"، ولا ب "جرائم"، بل هو "أخطاء" يجب أن يُعاقب مرتكبوها إذا ما أثبت التحقيق الذي يجريه الجيش الأمريكي ارتكابهم لها! إن الرئيس بوش يقول للطفلتين صفا وإيمان إن كل ما شاهدتاه لا يتعدى كونه "أخطاء"، ويصلح لأن يكون لهما درسا مفيدا في جعلهما قادرتين على تمييز "الخطأ" من "الصواب"، ف "الجريمة" إنما هي شيء أكبر من ذاك بكثير، ولا يمكن أن يرتكبها جنود من جيش يتقيد تماما ب "المعايير السامية"، وب "قواعد إطلاق النار"! كلام الرئيس بوش ذكَّرني بما قاله حليفه رئيس وزراء بريطانيا توني بلير في معرض تقويمه ل "تجربة الديمقراطية" في العراق. لقد أعرب عن دهشته ل "صعوبة" نشر الديمقراطية في هذا البلد. إنها كمثل دهشة صاحب الحمار الذي سعى، لفرط بخله، في تعويد حماره قلة الأكل، فمات، فقال معبِّرا عن حزنه ودهشته: "بعدما تعوَّد قلة الأكل مات!". إنهم في العراق لا يفعلون إلا مثل هذا الذي شاهدتاه الطفلتان صفا وإيمان، ثم يشكون شكوى فضيلة أسيء فهمها، ويتساءلون في دهشة صاحب الحمار عن السبب الذي "يُصعِّب" نشر الديمقراطية في العراق! وحتى لا يظل الرئيس بوش عاجزا عن تمييز خطأ من خطأ نقول له إن الطفلة صفا أخطأت إذ قالت إن 1 + 1 = 3، وأنت أخطأت إذ قلت إن 1 + 1 = قرد، فهلا أدركتَ الفرق بين خطأ وخطأ.