الفرح من فطرة البشر التي فطر الله تعالى الناس عليها، والترفيه وترويح القلوب لا غضاضة فيه في دين مستقيم أو خلق قويم أو منطق سليم وعرف مستقر.. فمن مأثورات تراثنا العظيم: روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة.. وإن لبدنك عليك حقا، ومن التراث أيضا: إني لأستجم نفسي بشيء من الباطل-أي اللهو المباح- أتقوّى به على الحق!!.. ورسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- الرحمة المهداة لم ينكر على النفوس البشرية فطرتها وإنما وظّف هذه الفطرة.. سمح لشاعره أن يستخدم منبره النبوي الكريم في الرد على أشعار مشركي قريش وجزيرة العرب، وللحبشة أن يلعبوا بأطواقهم في ساحة مسجده، ووقف ينظر إليهم وزوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تنظر مستندة على كتفه الشريفة.. وهي نفسها –أي أم المؤمنين عائشة- تلعب بالعرائس وبالحصان ذي جناحين فيضحك لها ومنها ولا يزجرها!! ويسابق زوجته حال قيادته للجيش المجاهد العظيم.. لم يكن في حياة سيد المرسلين فسحة من الوقت وهو أعظم دعاة الأرض، وأشجع قادة الحروب، وقدوة حكام الدول.. لكنه يحل لأمته عمليا ما أباحه الله تعالى لها.. والرياضة والمسابقات وسبل الترويح تختلف باختلاف الأجناس والشعوب والأزمنة، في عالمنا المعاصر احتلت الرياضة –وكرة القدم في القلب منها- قصب السبق في فنون التنافس والمسابقة بين الدول والأمم.. فضلا عن أن كرة القدم ذاتها لم تعد كما كانت قبل مائة عام من الزمان- مثلا- مجرد لعبة أو رياضة تنافسية، ولكنها أصبحت صناعة استثمارية اقتصادية، تُنفَق عليها مئات الملايين من العملات الصعبة، وتدر على الذين يديرونها باحتراف وتمكن المليارات، حتى أن أمراء النفط العرب يتسابقون اليوم على شراء الأندية الأوربية بأرقام فلكية وميزانيات تقترب من ميزانيات دول بغية التنافس في سوق المال!! أتأمل الدول الفائزة بكأس العالم لكرة القدم على مدار تاريخه فأجدها لا تخرج عن عضوية الدول الثماني الصناعية الكبرى في العالم عدا ثلاث دول-البرازيل والأجنيتن وأورجواي-تأتي في الصدارة ألمانيا وإيطاليا ثم انجلترا وفرنسا، اليابان كقوة اقتصادية وتقنية مذهلة دخلت مجال التنافس العالمي في ميدان الكرة فلم تفقد مقعدها في البطولة العالمية الأهم عبر ست دورات متتالية، وأحرزت المركز الرابع في عام 2002، والولايات المتحدة لم تتخلف عن البطولة منذ عام 1990م، وروسيا إحدى الدول المنافسة على بطولة أوربا، وعضو شبه دائم في كأس العالم، وكلاهما –أمريكاوروسيا- يعوضان تخلفهما الكروي النسبي بالتنافس الشرس على صدارة الألعاب الأولميبية المجمّعة، فإن افتقدا ريادة الكرة، اكتسبا صدارة بضع وثلاثين رياضة تنافسية أخرى!!.. وعلى الخط دخل التنين الصيني.. كرة القدم لم تعد تفاهة وسفاهة كما كنا نعدها من قبل، ناهيك عن أن رفع أعلام الدول في محافل التنافس العالمي يجذب أنظار مختلف الشعوب ووسائل الإعلام للتعريف بها على نطاق دولي.. في واقعنا العربي المعاصر – مصر على سبيل المثال-لا أنكر أن كرة القدم تُوظَّف توظيفا سياسيا لدعم النظم الحاكمة، وينسج الإعلام من انتصارات الفرق الوطنية لوحات نضالية، ويطلق ستارا من الدخان الكثيف للتغطية على الفشل المذري في جوانب الحياة المختلفة، بل وتذهب النظم السياسية في استخدامها إلى أبعد من ذلك حتى تعتبرها ركنا من أركان وأداة من أدوات الحكم.. لا أنسى ما حييت هتاف أبناء مبارك قبل ثورة يناير بإحدى عشر شهرا: (منتخب مصر كويس زي ما قال الريس)!! كل ذلك يجعل دعاة الإصلاح وأهل العلم والأكاديميين ينظرون إلى بطولات الكرة نظرة يملؤها الشك وتغلبها الريبة المبررة.. لكن الشعوب التي تعيش فطرتها تجعل كرة القدم مادة أساسية من مواد الفرح البريء في حياتها اليومية المكدودة المليئة بكل محفّزات الحزن والألم والانكسار.. الشعوب على حق في استجابتها لفطرتها، وفي تنسّمها لأنفاس الأمل في أي اتجاه، وتلمّس الانتصار في أي مجال من مجالات الحياة المعاصرة.. مع كل الانكسارات الواقعية في عوالم العلم والاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والتقنية التي يعانيها شعب كشعب مصر المكدود، حق له أن يعبّر عن وطنيته وانتمائه وأن يرفرف قلبه فرحا وترقص نفسه طربا مع رفرفات علم بلاده الذي ربما لا يراه مرفوعا إلا في المحافل القارية لكرة القدم.. وأيضا قليلا ما يراه كذلك، إذ حجم النكسات في عالم الكرة القارية أكثر من حجم الانتصارات، وإن ظلت مصر هي الأولى رقميا حصدا لألقاب القارة السمراء!! الشعب المصري في مجمله الكادح خلف لقمة العيش الذي يعاني من الفقر والمرض وضيق شديد في هامش مساحة الحرية العامة والشخصية، يلهث نحو فرحة الصعود لكأس العالم روسيا 2018.. إنها ليلة الفرح التي ينتظرها المكدودون التي تقلّصت أحلامهم واختُزلت في هذا الحلم، لم يعد الفرد منهم قادرا على الحلم الشخصي بحياة كريمة أو شبه كريمة، فسرعان ما تتحول أحلام من تلك النوعية إلى كوابيس مضنية.. دعوا الناس تفرح بالحلم الوحيد الممكن والمأمول وربما المتاح.. شاركوهم حلمهم البسيط.. لا أنكر على المصلحين تطلعهم إلى أحلام ريادية أخرى، لكنني لا أفهم معنى التضاد بين أحلام المصلحين وهذا الحلم اليتيم للبسطاء.. دعونا نفرح، وشاركونا الفرح، ومن فرحنا البسيط الساذج –ربما- خذوا بأيدينا نحو أحلام أخرى بعدما تقدّمون لنا فيها المثال والقدوة.. أفهم أن النظم المستبدة والإعلام الموالي يستغل الانتصارات الكروية ويلعب على عاطفة البسطاء من أمثالي.. لماذا لا تشاركونهم التنافس على عواطفنا؟، لماذا لا تخطفون منهم اللقطة؟ لماذا لا نرى رموزا وطنية إصلاحية وأكاديمية وعلمية تتصدر الجماهير في مباراة العودة أمام الكونغو – وقد تكون مباراة الصعود- ربما يتجاهلكم الإعلام الموجَه، لكن الإعلام البديل سيكون جاهزا للتركيز على مشاركتكم فرحة البسطاء التعساء الحالمين بعلم بلادهم يرفرف فوق ملاعب روسيا.. لو كنتُ زعيما أو إصلاحيا مرموقا ما توانيت عن رفع علم مصر في مدرجات استاد برج العرب في تلك المباراة!! ** عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية