شبّه مسؤول أميركي أخيراً تنظيم «القاعدة» وفروعه المنتشرة في الكثير من دول العالم بمجموعة «ماكدونالدز» التي تتيح لكل فرع حرية التصرف بالبضاعة، خلافاً لشركة «اي بي ام» التي تدير فروعها على نحو مركزي. وهو وصف ينطبق الى حد كبير على التنظيم الدولي للاخوان المسلمين الذي لا يتعامل مع فروعه بأكثر من النصيحة أو الاستماع الى تقارير دورية عن أدائها مع تأكيد استمرار البيعة للمرشد العام، وبتعبير أدق، للاخوان المصريين بوصفهم المرجعية الكبرى للتنظيم. قد تبدو هذه الطريقة التي يتبعها التنظيم الدولي في التعاطي مع فروعه هي الأسلم وفق كثير من المقاييس، لعل أهمها ضمان الإبقاء على تماسكه وعدم دفع بعض فروعه الى الخروج أو التمرد، فيما يراها البعض مناسبة في سياق التحرك السياسي ضمن نظرية «أهل مكة أدرى بشعابها»، وضمن منهجية التنظيم الكلية القائمة على عدم توافر منهج حدي في التعاطي مع المسائل السياسية والفقهية، فضلاً عن الوسائل التنظيمية. كل ذلك يبدو مفهوماً بشكل من الأشكال، وقد يكون صحيحاً ايضاً في أكثر الحالات، لكنه ليس كذلك في كل الحالات، خصوصاً في ظل المرونة الفقهية الواسعة، والمرونة الأوسع في طرائق العمل السياسي، والتي تمكنت من استيعاب فروع تستخدم العنف وأخرى تتحالف مع الأنظمة بشكل سافر، حتى وهي مرفوضة من الجماهير الشعبية. ربما كان ذلك مفهوماً بشكل من الأشكال لو كانت الدنيا لا تزال معزولة عن بعضها بعضاً ولم يعد بوسع أي أحد معرفة ما يجري في أي بلد مهما كان بعده اذا كان معنياً بذلك، كما يمكن أن يكون مفهوماً لو لم يكن بوسع قادة التنظيم أن يستمعوا لقيادة الفرع المعني، بل بعض معارضيها اذا توفروا، ومعهم بعض الكوادر الدنيا، فضلاً عن الاستماع الى مجموعات اسلامية أخرى تعارض سياسات قادة ذلك الفرع. هناك بالتأكيد مجلس شورى للتنظيم الدولي، فضلاً عن مكتب للارشاد، وليس في ذلك ما يصنف في دائرة السرية، أقله من زاوية الفكرة، ما يعني ان بوسع قيادة التنظيم ومجلسه الشوري، وهو من مختلف الأقطار أن يستمع لرأي المعنيين في قيادة الفرع ويقدرها بناء على ما يتوفر من معلومات أخرى، ثم يأخذ الرأي المناسب الذي يمكن أن يفرض على قيادة الفرع. هناك جانب على درجة من الأهمية يخص هذا الملف، أعني صورة الجماعة الكلية أمام جماهير الأمة، وفي وعيها الجمعي، وهو وعي صار بوسع المراقبين أن يقروا بوجوده في ظل ثورة الإعلام، وفي ظل الهجمة الأميركية - الصهيونية على الأمة والمخططات التي تعنى بإعادة تشكيل هذه المنطقة على وجه الخصوص. نعم هناك قضايا تهم الأمة، ومن الطبيعي أن تكون مهمة بالنسبة الى تنظيم يطرح نفسه طليعة للتغيير فيها، وبالطبع في سياق استعادة وحدتها، وحيث يجب ان لا تقر برامج جماعة بهذا الحضور ولها كل تلك الأحلام الكبيرة بواقع القطرية والتجزئة القائم إلا في سياق العمل من أجل تجاوزه، أما اعتباره شأناً نهائياً فهو الفشل الذي ما بعده فشل، خصوصاً عندما تكون المخططات الأخرى حاضرة وتسعى الى مزيد من الشرذمة والتفتيت ولا تكتفي حتى بما هو قائم منها. لا يمكن أن يكون ولاء الفرع القائم في هذا القطر أو ذاك للتنظيم الدولي مقدماً على ولائه للمبادئ والفكرة، فضلاً عن القيم التي تحكم صراع الأمة مع عدوها، بما في ذلك انسجامه مع المسار العام لجماهير تحب الفكرة الاسلامية وتنتمي اليها. أياً يكن الأمر فإن المسار السياسي، الاستراتيجي على وجه الخصوص، ينبغي أن يتحدد من خلال الشورى الجمعية وليس من خلال الشورى القطرية فقط، خصوصاً ان هذه الأخيرة يمكن أن تنطوي على قدر من التدليس، فأن يؤخذ قرار من مجلس الشورى القطري بفارق صوت أو صوتين لا يعني بحال أن القرار كان صائباً، خصوصاً في ظل السطوة الأمنية والسياسية لبعض الدول على قيادات التنظيم، وفي العموم فإن غالبية هشة من هذا النوع قد لا تعبر تعبيراً حقيقياً عن توجهات مجموع الكوادر الذين ربما انتخبوا ممثليهم على أسس أخرى وفي ظروف مختلفة في بعض الأحيان. ما نريد قوله هو ان ثمة معطيات كثيرة يمكن أن تؤدي الى قرار غير صائب، ولا ينسجم لا مع توجهات الجماهير في القطر المعني، ولا مع مصالح الأمة العليا، فضلاً عن عدم انسجامه مع صورة الجماعة أمام جماهير الأمة، وبالتالي الفكرة الاسلامية وريادتها لمشروع التغيير بشكل عام. من هنا ينبغي على التنظيم الدولي أو مجلسه الشوري الذي يتشكل من عدد من رموز العمل الاسلامي الاخواني في الأقطار أن يفرض رأيه على قيادة القطر المعني اذا شعر أن مسارها السياسي يمكن أن يؤثر سلبياً على العمل الاسلامي في ذلك القطر، كما على صورة الجماعة في أقطارها المختلفة بشكل عام، وكل ذلك تبعاً لتقدير موقف يوازن بين الداخل القطري وبين مصالح الأمة بشكل عام. وما من شك ان مساراً كهذا لا يمكن أن يكون قد أقر بالغالبية كما يتوقع أن تدلس قيادة القطر المعني، اللهم إلا إذا كانت قيادة متماهية في صورة شخص ما، كما كانت الحال في الجزائر، حيث سيطر الشيخ محفوظ نحناح على التنظيم برمته وأقصى جميع مخالفيه، وكان يقول لمن حوله «انني أرى ما لا ترون»، فيما كان الخوف يسيطر على الكثيرين تبعاً للظروف الأمنية الاستثنائية التي تعيشها البلاد. لقد أخذ الشيخ محفوظ رحمه الله، مواقف سياسية لم تكن مقبولة من قبل رموز الجماعة وقادتها وكوادرها في الأقطار المختلفة، إلا أن ذلك لم يدفع القيادة نحو مواجهته أو فرض مسار آخر عليه، ولو فعلوا لكنا أمام خيارين، فإما رضوخه للقرار الجمعي، وإما تمرده ومن ثم تجرؤ مخالفيه على السير في الوجهة الأخرى وأخذ شرعية التنظيم الدولي ومعها كوادر التنظيم وجماهيره. ما ذكّرنا بهذا كله هو ما وقع في العراق بالنسبة الى الحزب الاسلامي، أكان في قراره دخول مجلس الحكم خلافاً لقناعات الشارع العربي والاسلامي وقناعة التنظيم الدولي، أم موقفه الأخير بشأن الدستور الذي جلب العار على جماعة الاخوان برمتها. ولعل مصدر الخطورة هنا يكمن في التقدير اللاحق للقرار كأن يقال ان مجموعة الشيخ نحناح قد كسبت من مسار الشيخ، ما ينطوي على مديح له وذم لكل من رأوا غير ما رأى، وهم كثيرون في قيادة التنظيم الدولي، فيما ينطوي على تجاهل لاحتمال أن يكون الخيار الآخر هو الأفضل لو سار عليه، ليس للتنظيم فقط، ولكن للجزائر برمتها التي كانت على وشك تغيير وجهتها أيام عقد روما عام 1996 حين بادر الشيخ نحناح الى التمرد على جميع قوى الجزائر وتحالف مع العسكر ضدها، كما ينطوي على تجاهل لمعادلة ان أية سلطة لا بد ان تمنح من حالفوها بعض المكاسب قبل ان تشرع في قضمها تباعاً بعد ذلك. ينطبق ذلك كله على الحزب الاسلامي العراقي الذي قد يحصد تحالفه الانتخابي بعض المكاسب في الانتخابات المقبلة تبعاً لعدم وجود منافس مقنع في الوسط العربي السني وبسبب الاصطفاف الطائفي، مع أنه لو وقف ضد الدستور ورفض ضغوط "زلماي خليل زاد" واغراءاته ولم يستمع الى أكاذيب جلال طالباني لكان وضعه أفضل بكثير، فيما يعلم الجميع أنه لو دعمت هيئة علماء المسلمين قائمة أخرى ولو باشارة عابرة لفازت تلك القائمة وعزلت قائمة الحزب، وفي العموم فإن مشاركة الحزب في الانتخابات لن تكون الدواء الشافي لعلل العرب السنة ولا علل العراق، وستبقى المقاومة هي عنصر التخريب الأساسي على مشروع الاحتلال. ما يجري في العراق صراع يهم الأمة بأسرها ولا ينبغي أن يترك اخوانياً، ليس للحزب الاسلامي أو الاخوان العراقيين فحسب، بل ولا حتى لعموم العراقيين ما دام يؤثر على مستقبل المنطقة برمتها، الأمر الذي ينطبق على الصراع العربي - الصهيوني الذي يمكن القول ان حركة «حماس» قد مثلت الاخوان فيه أفضل تمثيل ومنحتهم فكرتهم الكثير من الشعبية في الأوساط العربية والاسلامية. خلاصة القول هي ان على التنظيم الدولي للاخوان المسلمين بزعامته المصرية المقبولة والمحترمة من الجميع أن يكون حاضراً بقوة في خيارات الفروع السياسية، فالغنم بالغرم، وما دام مسار الفروع يؤثر على الأصل والفروع الأخرى، فإن على الفرع أن ينسجم بدوره مع الآخرين، فيما يعلم الجميع ان مقولة «أهل مكة أدرى بشعابها» لم تعد ذات معنى في ظل العولمة الاعلامية، فكيف اذا كان موطن الخلاف يتعلق بالجبال الشاهقة والسهول العريضة، كما قال أحد قادة الاخوان غير العراقيين لقائد اخواني عراقي في سياق جدال حول مواقف الحزب الاسلامي التابع للاخوان في العراق. ------- صحيفة الحياة اللندنية في 24 -11 -2005