يا ويح قلبى, إنها ما دامت لأحد, فكيف وصلت إلىّ وإليك وإليه, وكيف تسير اليوم تخبط الأرض فتكاد تئن من وطأتك, بينما أبوك أو أمك أو معلمك انحنى منه الظهر, ومال الجسد, وأصبح شعار جسمه الدائم الركوع.. إنها دنيا, لا تترك راكبا راكبا ولا ماشيا ماشيا, وإن هى أقبلت فالجو ربيع والطقس بديع, لا تشعر بوخزة البرد وترتدى الخفيف من ملابس الفتوة, وهى دنيا لو أدبرت, فكل غطاء لا يمنع البرد, وكل دهان لا يسكن ألم المفاصل. كان العرب الأباعد, ينصحوننا بأن نأخذ من شبابنا لشيخوختنا, حتى كدنا نفسد شبابنا, ولا نعلم شكل شيخوختنا, وأصبح العرب المحدثون يتكلمون كل يوم, عن قطعة أرض تتركها للعيال, أو قروش تنفعهم بعد رحيلك, فأصبحت الشيخوخة لغيرك, بعد أن كان شبابك لشيخوختك, ودخلنا فى تيه تغير الزمن, فلا الزمن بقى هو الزمن, ولا نحن بقينا نحن. فى مقهى بميدان الروضة, يشبه آلاف المقاهى، بينما الروضة لا يشبهها حى ولا منطقة, وكان الجالس يوميا فى مقعده المعروف, يستمتع فى الثانية صباحا, بقراءة الجرائد, ورشف الشاى, وكنت أراقبه, وأقول لمن يجلس معي: إنها نعمة أن تتعلم كيف تجلس وحيدا وأن تستمتع بوحدتك, وأشرت باتجاه الرجل العجوز وأبديت ملحظى: هل تراه فقد معظم أصحابه, وخدعوه بالاختباء تحت التراب؟ هل تعتقد أنه يشتاقهم؟ وهل تعتقد أنهم لا يزالون يذكرونه, فى أجواف قبورهم؟ رد رفيقى بأن النعمة أن تتعلم كيف تعيش حياتك حسب كل مرحلة, ألا تنشغل بغد فتفقد اليوم, وألا تنغمس فى ذكريات الأمس فتفسد اليوم, ولا يأتيك الغد. الأجانب مُدهشون تجد أحدهم بلغ السبعين أو الثمانين, ويقطع الساعات طيرانًا ليصل إلى سفح الأهرامات, ويستمتع بالشمس, دون أن ترهقه اشتياقات الأيام الخوالى, ودون أن يوبخ نفسه على ما أنفق فى رحلة تصل تكلفتها أحيانا إلى معظم مدخرات شبابه وكهولته. يرهقنى السهر, وأنام بينما الدنيا حريق حولى, وأنتبه فإذا الناس نيام, فأقطع الشوارع والذكريات إلى حيث أماكن الذكريات والعشرة القديمة, والأحاديث البدائية والبديهية والفجائية, أغيب فى الماضى بكل ما أوتيت من حب لفناجين القهوة السادة, وأضحك كثيرا كلما وصلنى صوت أم كلثوم بكلام الخيام: فما أطال النوم عمرا/ولا قصّر فى الأعمار طول السهر. مشغولون نحن بالقديم من الأيام, بالتذكر ومقاومة النسيان, نعيش فى جلابيب الراحلين, والحقيقة أننا الراحلون, وهم الباقون فينا, حتى مبارك لا نريد أن نصدق أنه أصبح خبرًا لفعل ماض ناقص ناسخ ماسخ, ونقضى الاجتماعات والمقالات والثرثرات والمكلمات والمصطبات فى الحديث عن محاكمته ومصيره المنتظر, مع أن مصيره أصبح معروفًا, فهو قد بلغ من الذل مكانة لم يبلغها قبله أحدٌ من العالمين ومن الحاكمين والملوك, فأين الأكاسرة الجبابرة الأولى, هل تجد منهم من أحد أو تسمع لهم قولا, إنهم جميعًا صالحهم وطالحهم, ومصلحهم ومفسدهم أصبحوا رميمًا لو انكشفت عنه جنادل القبر لذرته الرياح, بعد أن كان وكان. إنها دنيا, نتذكرها دائمًا عند الموت, فنتنهد ونبلع ريقنا ونهمس لمن حولنا(هيه دنيا وحدوه). كل شىء يموت ويتغير ويفنى غير واحد خلق الموت والتغير والفناء, فسبحان من لا يتغير.. فلو وصلت إليك فاستمسك بها, لأنها وهم. [email protected]