تأخر الإصلاح في مصر طويلاً، وعندما بدت بشائره في الأفق غمر البعض قلق وملأت نفوسهم مخاوف مشروعة ومفهومة أسبابها، إلا أنها في نظري يجب ألا تعوق انطلاق مسيرة الإصلاح من أجل استكمالها، واعتقد أنها ستُبدد مثل السحاب عندما تشرق شمس الحرية والإصلاح. ما يحدث في مصر اليوم وضع تكرر في بلاد أخرى كثيرة عندما واجهت الظروف نفسها، وما حديث التحولات الكبرى في تاريخ الأمم عنا ببعيد. ما نريده نحن «الإخوان المسلمون» منذ ثلاثة أرباع القرن أن يتم التحول والتغيير بطريقة متدرجة وسلمية وبأكبر قدر من الهدوء والسلاسة من أجل إيجاد بيئة نفسية وثقافية وفكرية، فالتغيير سنة كونية إلهية، وعندما تتحقق الظروف المواتية، سنحقق ما نرجوه لبلادنا ومنطقتنا من نهضة كبرى نبنيها على أساس الإسلام العظيم: حضارة وثقافة. وكل المواطنين، مسلمين ومسيحيين، شاركوا قبل قرون في بناء نهضات ماضية في تاريخنا الوسيط، هذه النهضة ستعيد ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، حضارة تستظل بالإيمان بالله واليوم الآخر، حضارة تعيد للإنسان توازنه النفسي وتحقق له ذاته الضائعة، وتعيد بناء مكانته في الكون الفسيح كمخلوق كرمه الله تعالى وسخر له كل المخلوقات وأسجد له ملائكته المقربين. هذه الحضارة سبق لها أن سادت الدنيا قرابة ألف عام، شارك فيها كل الأقوام من المحيط إلى المحيط: عرباً وفرساً، تركاً وكرداً، زنوجاً وبربراً. أتصور أننا بدأنا متأخرين في بناء النهضة، وانطلقنا من النقطة الخطأ. كان المفترض ان نبدأ بالحريات العامة لنرسخها في المجتمع كثقافة وسلوك وإجراءات وتنظيم، ثم نبني مؤسسات ديموقراطية سليمة في إطار دستور جديد يحافظ على هوية مصر العربية الإسلامية والقيم الأساسية للمجتمع، ويتضمن ضمانات حقيقية للحريات العامة، ويحقق التوازن بين السلطات، ويحدد دور القوات المسلحة بوضوح كدرع لحماية الوطن من أي عدوان خارجي، وحماية المؤسسات الدستورية من أي انهيار، ويضمن استقلالاً كاملاً وتاماً للقضاء. ثم تأتي بعد ذلك الانتخابات الدورية الشفافة وفق قواعد مستقرة ليتسنى محاسبة الحكومات ويتم تداول السلطة بسلاسة وهدوء. الغريب أننا وضعنا العربة أمام الحصان، هل السبب أنه حتى الآن لا تبدو امارات واضحة أن هناك إرادة سياسية جازمة لتحقيق التحول الديموقراطي وبناء دولة القانون والمؤسسات، أم أن الاستجابة جاءت بسبب الضغوط الخارجية الشديدة والضغوط الشعبية المتزايدة بعد هذا الصيف الساخن في مصر وبعد التحولات الخطيرة التي شهدتها المنطقة العربية من حولنا، أم أن ظلال قضية التوريث تربك كل الحسابات وتبعث الشكوك الهائلة حول جدية المضي في مسيرة الإصلاح إلى نهايتها، ما يجعل القلق يتزايد، فتسري الشائعات. أن كل ما يحدث هو ديكور مصطنع وطبخة أعدت سلفاً لتكون الأمور تحت السيطرة. المفاجأة التي زادت الارتباك ويتصور البعض أنها مصدر رئيس للقلق على عكس الحقائق على الأرض هي النتائج التي حققها «الإخوان المسلمون» في المرحلة الأولى ثم الثانية من الانتخابات البرلمانية: فهل هذا هو مصدر القلق؟ أعتقد جازماً بعكس ذلك، وان دخول الإخوان الانتخابات ثم تحقيق هذه النتائج ليس مصدراً للقلق، بل يجب أن يكون مصدراً للارتياح. ذلك لأننا - إذا كنا جادين في دفع مسيرة الإصلاح، وتحقيق التحول الديموقراطي وبناء نهضة تنموية على كل الصعد، فلا بد من المشاركة الشعبية ولا بد من تنافس حقيقي في المجتمع، وكان الإخوان رواداً في ذلك. قدمنا في الانتخابات أداءً جيداً جداً شهد به الجميع، برنامجاً انتخابياً اختلف حوله الناس، وهذا حق طبيعي وأمر مطلوب، ماكينة انتخابية قوية ذات أداء عالي المستوى استخدمت أحدث الوسائل الالكترونية، قدرات تنظيمية جيدة الالتزام، لها أسلوب مبتكر ومتطور وقادرة على مراجعة نفسها خلال منافسة انتخابية حامية الوطيس وتقديم المزيد في كل مرحلة لتحقيق أفضل النتائج، وواكب ذلك كله خطاب سياسي واجتماعي وثقافي واضح ومحدد لا يراوغ ولا يتجمل، بل يعبر عن حقيقة ما يريده الإخوان ويحمل الشعب مسؤولية الإصلاح ولا يعده بأنهار السمن والعسل ولا يقدم إلا رؤية واضحة لأسس النهضة والإصلاح، إذ يفتقد الجميع القدرة على الدخول في التفاصيل بسبب الغياب المتعمد للأرقام والحقائق التي تحجبها الحكومة على أحسن الفروض وقد لا تكون متوافرة لديها على أسوأ الاحتمالات. إذا كنا نريد أن تستمر مسيرة الإصلاح، فلا بد من إرساء عدد من الأسس والقيم الديموقراطية التي اتفقنا عليها نظرياً ولكننا نفاجأ بنتائجها العملية عندما تتحقق على الأرض. لقد حرص الإخوان منذ الإعداد لهذه الانتخابات قبل أكثر من عام على تبديد المخاوف وإزالة القلق عبر التزامات محددة: - التزم الإخوان في برامجهم وخطابهم بوضوح تام بأن الأخوة الأقباط شركاء في الوطن، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، في إطار المواطنة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات أمام الدستور والقانون، وان المرأة لها أهليتها الكاملة وحقوقها التامة في التعليم والعمل والترشيح للوظائف والمشاركة في البرلمانات، وأعلنوا أن الأمة هي مصدر السلطات واحترام التعددية الحزبية والانتخابات الحرة ودوران السلطة عبر هذه الانتخابات الدورية. ألا يكفي ذلك كله لتبديد المخاوف وإزالة القلق المشروع. - طرح الإخوان مبادرة الإصلاح في آذار (مارس) 2004 للنقاش العام. - سعى الإخوان لبناء تحالف وطني عريض لأنهم أكدوا في مبادرتهم أن عبء الإصلاح لا يستطيع فصيل واحد - ولا حتى الحكومة - القيام به منفرداً، فالتقوا الأحزاب السياسية والقوى الأخرى. وانضم الإخوان إلى الجبهة الوطنية للإصلاح والتغيير أملاً في تجاوز ما حدث من تراشق بعد أن عزفت الأحزاب عن بناء التحالف العريض والتقت منفردة مع الحزب الحاكم ورفضت الانضمام بجدية إلى التحالف الوطني الذي أسسه الإخوان مع القوى الشعبية الأخرى. والتزم الإخوان بالتنسيق الانتخابي بعد أن أعدوا قائمتهم الانتخابية قبل الإعلان عن الجبهة بشهور ونجح التنسيق بنسبة تزيد على 75 في المئة. - رشح الإخوان نحو 150 مرشحاً فقط من أكثر من 250 قدمتهم قواعد الاخوان وأهّلهم القسم السياسي للمنافسة القوية، رغبة في إبداء حُسن النية وإفساح المجال أمام الآخرين وحرصاً على عدم الظهور بمظهر الساعي إلى الصدام، أملاً في طمأنة الجميع كي تستمر مسيرة الإصلاح. - أعلن الإخوان برنامجاً انتخابياً عاماً ووافقوا والتزموا بالبرنامج الذي أعلنته الجبهة للإصلاح الدستوري والسياسي وقدم المرشحون برامج محلية لدوائرهم ومحافظاتهم، وقام مفكرون بنقد هذا البرنامج واستفاد الإخوان من نقدهم، ولخص الإخوان فكرتهم وبرنامجهم في شعار «الإسلام هو الحل» وأعلنوا بجواره عشرات الشعارات، إلا أن الانتقاد توجه إلى هذا الشعار فقط، وأقر القضاء صلاحيته كدعاية انتخابية لاتفاقه مع الدستور والقانون. وفوق كل ذلك فإننا لسنا بصدد انتقال للسلطة، ولكننا نريد أن نشارك جميعاً في الإصلاح الدستوري والسياسي كمقدمة ضرورية وأساسية بالتزامن مع الإصلاح الشامل الذي يرى الإخوان أنه لن يحفز المشاركة الشعبية إلا إذا كان على أساس قواعد الإسلام، ولن ينجح إلا إذا احترم عقيدة الأمة وثقافتها ولن يستمر إلا إذا حقق تنمية شاملة ووحدة عربية وانتماء إسلامياً وبعداً حضارياً إنسانياً. الإخوان يدخلون الآن مرحلة جديدة، وهي المشاركة الجادة في إصلاح الحكومة وتصحيح مسيرة النظام بعد أن حققوا نجاحات في إصلاح نفوسهم وبناء بيوت مستقرة والانتشار في المجتمع وشاركوا في تحقيق الاستقلال الوطني من أجل حماية هذا الاستقلال من التدخل الأجنبي في شؤوننا الداخلية والتهديدات الخطيرة التي تواجه الأمن القومي وسببها فساد الحكم والإدارة. هذه المرحلة تحتاج إلى إضفاء المظلة القانونية على الكيان الإخواني الواقعي، وتحتاج من الإخوان إلى حسم هذا الوضع القانوني. وأعتقد أننا كإخوان اتفقنا على فصل الوظيفة الدعوية من الوظيفة السياسية، بمعنى أن تعود جماعة الإخوان المسلمين كهيئة إسلامية عامة معنية بالاهتمام بالإسلام الشامل والدعوة والتربية والإرشاد يمكنها أن تمثل، بجوار المرجعية الأساسية في الأزهر الشريف وبمشاركة جهات إسلامية أخرى تعمل في حقل الدعوة، مرجعية إسلامية شعبية، أما النشاط السياسي فيقوم به حزب مدني ذو مرجعية إسلامية مفتوح لكل المواطنين مسلمين ومسيحيين، وله برنامج سياسي ينافس في الانتخابات وفق القواعد المستقرة، قاعدته الانتخابية ستكون من الإخوان وأنصارهم، وهذا حدث في بلاد عدة مثل الأردن والمغرب ويحدث الآن في العراق وغيره. وخارج العالم العربي، تحقق في باكستان وماليزيا واندونيسيا وهذا الحزب سيكون محافظاً بطابعه ومدنياً بحقيقته وسياسياً في أسلوبه. هذا الحزب سيزيل الغموض الذي تفرضه الحكومة على الإخوان بسبب الحظر القانوني والذي يسبب القلق ويثير المخاوف، إذ سيتاح للجميع التعرف على الحزب وبرامجه والمشاركة في عضويته وممارسة نشاطاته. هذا الحزب سيكون نموذجاً جيداً يضاف إلى النماذج الحزبية التقليدية، فلا هو حزب أيديولوجي بالكامل، ولا هو حزب مصالح وخدمات تماماً، بل هو مزيج بينهما، يمزج المثالية بالواقعية، ويوازن بين المبادئ والمصالح. --------- صحيفة الحياة اللندنية في 30 -11 -2005